دعيت إلى مؤتمر «تعارف الحضارات» المنظم من طرف مكتبة الإسكندرية بتنسيق مع مركز حوار الحضارات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة ومركز البحوث في الأزهر. مثل الوفدَ المغربي عبدُ ربه، والدكتور أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية، والدكتور عبد الرحيم بنحادة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس، والدكتور يحيى اليحياوي، الخبير الإعلامي، والدكتور محمد بنصالح خبير منظمة الآيسيسكو، والدكتور سعيد بن سعيد العلوي المفكر المغربي والعميد السابق في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في الرباط. حضر المؤتمر مفكرون وباحثون من العالم العربي والإسلامي وأوربا، من المغرب ومصر والجزائر والسعودية وتونس وتركيا وألمانيا وأفغانستان والسودان وسوريا والأردن وكوسوفا وماليزيا. وقدمت فيه أكثر من سبع عشرة ورقة علمية، تؤسس كلها لمفهوم (تعارف الحضارات) وتنتقد المفاهيم السائدة في المجال كالحوار والصراع والانقسام والأحادية ونفي الآخر. وقدم مفهوم «التعارف» كمفهوم خلاق يختزل أبعادا ومكونات ثقافية وأخلاقية وتاريخية وحضارية، يبحث عن المشترك الإنساني، ويجنب العالم مخاطر الصدام والنزاع المدمر. كما يقدم المفهوم رؤى وأفكارا على مستوى النظر، وخبرات وتجارب على مستوى العمل. وقدمت في المؤتمر نماذج من التاريخ ومن الحاضر ونماذج ومن الخبرات والتجارب القائمة في عالم اليوم على اختلافها وتنوعها وغناها، خصوصا في مجالات العلم والتعليم والتجارة والرحلات والحرب والسلام والترجمة والديبلوماسية، مع استحضار السياق العالمي المعاصر الذي يعرف ثورة معلومات وتطورا مهولا في تكنولوجيا الاتصالات وشبكات الإعلام، وتغير موازين القوى الحضارية في العالم. كما قدمت بحوث كيفية الربط بين منطق التعارف ومنطق المصالح، ومدى فائدة أطروحة التعارف في بناء منظمات دولية وأحلاف مختلفة، وكيفية تخلص العالم من هيمنة الدول الكبرى على السياسات الدولية، وعلى توجيهها المؤتمرات الدولية حول المرأة والتنمية والبيئة والسكان... كما دعا المؤتمر إلى شراكات حضارية جديدة تستنهض كافة الحضارات وتفعل دور الحضارات التي تتمتع بثراء ثقافي ومعنوي من أجل إصلاح العالم ومواجهة تحدياته المختلفة. انتقلت من أكادير على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية المغربية، حجزت لي تذكرة مباشرة من مطار أكادير المسيرة إلى مطار محمد الخامس في الدارالبيضاء، Non Escale، لكن الخطوط الملكية المغربية فرضت علينا كعادتها إرادتها وخياراتها المملوءة بالتأخر والانتظار، فأرغمنا على العروج على مطار مراكش المنارة ثم الدارالبيضاء. توجهنا من مطار محمد الخامس إلى القاهرة عبر طائرة تابعة للخطوط المصرية، احترمت التوقيت وكانت الخدمة فيها جيدة. وصلنا مطار القاهرة الدولي في حدود العاشرة ليلا بعد خمس ساعات من الطيران. أول ما يلحظه الداخل إلى مطار القاهرة الدولي بعد الثورة التخفف الأمني الكبير والمرور اليسير في حواجز المراقبة. وهذه هي المرة السابعة التي أدخل فيها إلى مصر عبر هذا المطار، وكثيرا ما كان المسافرون المغاربة قبل الثورة يتعرضون لسوء استقبال جمارك المطار بدعوى أن تأشيرة السفارة المصرية في المغرب لا تحتوي على تأشيرة أمنية، مما يلزمنا بفترة انتظار غير محددة لتتدخل الجهة الداعية لنا لحل المشكل وأخذنا إلى حيث المؤتمر. وبعد ثورة 25 يناير لم يحصل هذا معنا، فعبرنا إلى الأراضي المصرية بسلاسة. وجدنا سائق مكتبة الإسكندرية ينتظرنا رافعا أسماءنا على لوحة كبيرة. توجهنا إلى الإسكندرية بعد أن اقترح علينا السائق أن نسلك الطريق الصحراوي عوض الطريق الزراعي الذي يمر وسط القاهرة تجنبا للازدحام، خصوصا أن ما بين القاهرةوالإسكندرية يتطلب ما يزيد على ثلاث ساعات، وخطر التأخر والدخول إلى الإسكندرية في فترة حظر التجول بين ال02 صباحا وال05 صباحا كان هاجس السائق. سلكنا الطريق الصحراوي، وقف السائق للتزود بالوقود وضغط الوقت بارز على محياه وهاجس حظر التجول يؤرقه. وجدنا أنفسنا أمام أثر آخر من آثار الثورة، طابور طويل من الشاحنات والسيارات وأصحاب البراميل البلاستيكية أمام محطة بنزين للتزود، حاول السائق إقناع من سبقونا من سائقي الشاحنات الكبيرة بالسماح لنا بالمرور بدعوى أنه يحمل ضيوفا أجانب. أمضينا أكثر من أربعين دقيقة قبل أن يصل دورنا في التزود بالبنزين بعد تسهيلات خاصة ممن سبقونا. انطلقنا في اتجاه مدينة الإسكندرية، لا وجود لأمن أو شرطة على طول الطريق، تلقى السائق مكالمة من مسؤولي مكتبة الإسكندرية يخبرونه بأنهم حصلوا على ترخيص خاص من المجلس العسكري للقوات المسلحة يسمح له بالدخول رغم الحظر لإيصال الضيوف الأجانب. لم نجد مكانا في الطريق بين القاهرةوالإسكندرية نتناول فيه وجبة العشاء.. كان الطريق مملوءا ومزدحما بالسيارات والشاحنات. دخلنا الإسكندرية في حدود الثانية صباحا كان الطريق سيارا. فوجئنا بأن حظر التجول لا شئ يدل عليه في المدينة، خصوصا وأن سكان القاهرةوالإسكندرية هم سكان ليل بامتياز، إذ المقاهي والطرقات غاصة بالناس من مختلف الأعمار. وصلنا فندق هلنان في منتزه فلسطين، قيل لنا إنه كان أحد قصور الملك فاروق. بعد إجراءات التسجيل، تناولنا وجبة العشاء ثم دخل كل واحد منا إلى غرفته لأخذ قسط من الراحة استعدادا للمؤتمر صباحا، وقد أخبرنا بأن حافلة المؤتمرين ستتوجه إلى مكتبة الإسكندرية، مقر المؤتمر على الساعة الثامنة والنصف صباحا، وبين الفندق والمكتبة قرابة خمسة كيلومترات. في الصباح، توجهنا إلى مكتبة الإسكندرية. عند لقائنا في بهو الفندق مع ضيوف المؤتمر من بلاد مختلفة، كان النقاش بعيدا عن موضوع المؤتمر، والواحد منا كان يسأل الآخر عن أحوال الثورة في بلده، وكان موضوع الثورة المصرية بارزا في الحديث، ولاحظنا على أصدقائنا المصريين نشوة بارزة إلى حدود الافتخار.. هنأناهم على إنجازهم التاريخي الكبير. يكاد الحدث المصري يهيمن على أحداث الدول العربية الأخرى وعلى مناقشات المؤتمرين. بعد وصولنا إلى المكتبة، وجدنا الأمور منظمة بشكل ملفت كالعادة. وخلايا من الشباب والشابات موزعي المهام يوجدون رهن إشارة المؤتمرين، لم يتغير أي شيء في المكتبة ما بعد الثورة، وهذه هي المرة الرابعة التي أشارك فيها في مؤتمر، إلا من إزالة صور مبارك وزوجته سوزان، وهي المتهمة بنهب الأموال الموجهة إلى المكتبة. المصريون يتابعون أخبار بلدهم بشكل مستمر. في صباح 18 ماي 2011، كان الحديث عن تنازل سوزان ثابت مبارك عن ثروتها للدولة، المصريون الذين التقينا بهم في المؤتمر يرفضون تمتيعها بالسراح ويلحون على محاكمتها. وغير بعيد عن مكتبة الإسكندرية، تظاهرة للأقباط ضد أحداث أمبابة والمطالبة بمحاكمة المتورطين فيها. الأقباط يرددون الشعارات والأناشيد ويحملون اللافتات، يتضامن معهم المسلمون، ولا وجود لأمن مركزي ولا شرطة ولا قوات مسلحة في محيط التظاهرة القبطية. في فترات الاستراحة أو التناوب بين الجلسات أو عند الوجبات كان النقاش متشعبا ومتسارعا بين المؤتمرين من البلاد العربية، كان الجميع يتساءل عن مستقبل مصر بعد الثورة، في غياب الأجهزة الأمنية بمختلف أنواعها، ومع بداية ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمواد الأساسية، وعن مستقبل محاكمة مبارك وعائلته ومعاونيه، خصوصا وزير الداخلية حبيب العادلي، وكذا عن الانتخابات، وغياب رمز سياسي يمكن أن يتحقق حوله الإجماع بين الشعب بمختلف أطيافه والجيش لقيادة مصر، خصوصا وأن لا أحد يتكلم عن حظوظ عمرو موسى أو البرادعي أو أيمن نور، مع غموض في ترشيح القيادي الإخواني أبو الفتوح على خلاف مع موقف الإخوان المسلمين الذين رفضوا أو قل تعهدوا بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، مع ميلهم إلى دعم المفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد سليم العوا، رئيس جمعية مصر للحوار، وهو بالمناسبة صهر المستشار طارق البشري الذي عينه المجلس العسكري رئيس لجنة تعديل الدستور. والدكتور العوا معروف باجتهاداته الفكرية والفقهية الإسلامية، وهو أمين سر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي، وصاحب كتابات متوازنة في الفقه والقانون والمواطنة والعلاقة بين المسلمين والأقباط. وتحكي بعض الروايات أن دفعه إلى الترشح جاء لقطع الطريق على الإخواني المنشق أبو الفتوح، ولطمأنة القوى الوطنية المخالفة لأطروحات الإسلاميين، وكذا للغرب وللمؤسسات الدولية الداعمة لاقتصاد مصر. وبالمناسبة، فجماعة الإخوان المسلمين عرفت الانشقاقات منذ سنة 1932 بعيد تشكلها، في الإسماعيلية وتحدث البنا عن ذلك في مذكراته (ينظر: حسن البنا وجماعة «الإخوان المسلمون» بين الدين والسياسة 1928-1949، تأليف حمادة محمد إسماعيل، ص 329، دار الشروق). يتبع... محمد همام