وجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما، يوم الخميس 19 ماي المنصرم، خطابا خصصه للحديث عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأعلن فيه عن رؤية سياسية «جديدة» بالوقوف إلى جانب الشعوب العربية، خلافا للإدارات الأمريكية السابقة التي دعمت الأنظمة الديكتاتورية العربية، ووعد بمساندة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام سيادة الشعوب العربية الثائرة وتقديم العون المادي والمعنوي إليها. المتتبع لخريطة التغيير السياسي في العالم العربي يعي أنه أمام متغير استراتيجي جديد، يتعلق بمبدأ «الإفشال الإيجابي» في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تحكمت فيها مجموعة من المبادئ المتطرفة والتي تناولت كيفية تحرك الولاياتالمتحدة على صعيد العالم العربي منذ سقوط الطاغوت في كل من تونس ومصر. وازداد الوضع تعقيدا بعد أحداث اليمن وليبيا والبحرين والمملكة العربية السعودية، وأخيرا سوريا. فارتأى الرئيس باراك أوباما أن ينتهج لعبة «مثالية»، كشف فيها النقاب في خطابه عن برنامج المساعدات الاقتصادية لمصر وتونس كجزء من جهد واسع لدعم «الإصلاح الديمقراطي» في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن ما لم يتطرق إليه هو أنه جزء من الإدارات الأمريكية التي دعمت ولا تزال تدعم الديكتاتوريات العربية إلى يومنا هذا. وحتى يونيو 2009، أي 18 شهرا فقط قبل سقوط الديكتاتور المصري حسني مبارك، أشاد الرئيس أوباما بهذا الحاكم المستبد حين قال عنه إنه «حليف قوي وعنصر مهم من أجل الاستقرار في المنطقة». وبسقوط حسني مبارك سقطت كل الأوراق الأمريكية التي بنت عليها سياستها الخارجية، ابتداء بمبدأ «الفوضى الخلاقة» الذي تبناه جورج بوش الابن بأمر من «المحافظين الجدد» الذين وعدوا العالم العربي والإسلامي، قبل مجيء أوباما، بتأييد الديمقراطية والحريات العامة، بما فيها الحريات الفكرية والسياسية، وانتهاء بمبدأ «الواقعية» الذي وافق عليه الرئيس الحالي باراك أوباما وانجرف وراء «الواقعيين الجدد» ليطبق فكرة ثانية مفادها التعامل مع الوضع كما هو وضبط الاستقرار بالاستعانة بتحالفات «مؤقتة» لتمرير الاستراتجية الأمريكيةالجديدة (قبل اندلاع الثورات العربية) دون الدخول في مواجهات مع أطراف معينة. وكانت المفاجأة الكبرى التي حيرت الأمريكيين وباغتت العرب أنفسهم: الانتفاضات العربية الشعبية في وجه أنظمتها المتواطئة للمطالبة بالحريات السياسية ومكافحة الفساد. والآن وقد أدركت الولاياتالمتحدةالأمريكية، متأخرة، أن وقوف سياساتها الخارجية بجانب الديكتاتوريات العربية في مواجهة الثورات الشعبية العربية قد فشلت في تحقيق أهدافها أو على الأقل لا تعرف كيف تحسم موقفها بشكل نهائي، يتعين أن تبحث عن أسلوب تعامل جديد في المنطقة: السطو على الثورات العربية ورعايتها. ولادة جديدة تعي الولاياتالمتحدةالأمريكية جيدا أن العالم العربي يقترب من ولادة مرحلة جديدة وخطيرة بنوعية ظاهرة الأحداث التاريخية الفريدة وسلسلة الاضطرابات السياسية، تتفجر الواحدة تلو الأخرى، على بساط العالم العربي بأسره. فأمريكا، ومعها أوربا وربما العالم بأكمله، أصبحت متأكدة من أن الثورة العربية سينبثق منها نظام دولي جديد، وتصورت مع نفسها أنها الوكيل الوحيد والوصي الشرعي على هذه الثورات الشعبية لتأويلها واحتوائها في أجندتها. لهذا يحاول باراك أوباما القيام بشيء غير عادي في التاريخ الأمريكي، وهو تغيير نظرة شباب العالم العربي الثائر إلى الولاياتالمتحدة، وبالتالي انتزاع تنازلات ملموسة منه مع الحفاظ على نفس سياسات الهيمنة التي كانت موجودة في ظل إدارة جورج بوش الابن أو أسوأ من ذلك. لكن الفرق بين أوباما وسلفه هو استخدام أوباما أدوات الخطابة والبلاغة بطرق بارعة وممارسة ماكرة في محاولة لإعادة بناء هيبة أمريكا دون التخلي عن الحفاظ على هيمنتها الأمبريالية. فعندما انتُخب أوباما رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية وعد ب«فتح صفحة جديدة» مع العالم العربي والإسلامي على أساس من الاحترام المتبادل والمصالح ليس أكثر من تحت سقف البرلمان المصري الذي صفق له بحرارة. لكن التناقض يبدو واضحا في دفاعه المستميت عن الحرب في كل من أفغانستان والعراق وجرائم أمريكا التي فاقت جرائم النازية في هاتين الدولتين دون أن ننسى الباكستان التي باتت أكثر دموية على عهده مقارنة بما كانت عليه في عهد سلفه جورج بوش. كما أنه أصبح خارجا عن القانون والمواثيق الدولية بانتهاك سيادة الدول وملاحقة البشر لقتلهم خارج حدود بلده. ويجب ألا نغفل مواقفه المتشددة ضد رفع القضية الفلسطينية أمام الأممالمتحدة للمطالبة بقيام دولة للفلسطينيين. ولعل أغرب ما تجاهله في خطابه هو منطق القوة والاعتداء على الحريات العامة، بما فيها الحريات الفكرية والسياسية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية ذات السيادة المستقلة من طرف إدارة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعتبره الوسيلة الوحيدة المعتمدة في سياستها لتحقيق مصالحها الحيوية. وخير دليل على ذلك يتمثل في شهية أمريكا التي تدجج الحكومات العربية القمعية بالنار والحديد لتحويل العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، إلى قاعدة عسكرية لمواجهة صحوة شعوبها وكسر أي انتفاضات أو ثورات. فسياسة أوباما في كل الدول العربية، بدون استثناء، أضحت أكثر عدوانية من إدارة بوش السابقة، وتصاعدت وتيرة الحرب على يده في كل دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ووفق تقرير رسمي من دائرة مؤسسة الأبحاث في الكونغرس، فإن الإدارة الأمريكية أبرمت مع السعودية هذه السنة أضخم صفقة بيع أسلحة في تاريخ الولاياتالمتحدة على الإطلاق، حيث وصلت قيمتها إلى 60 مليار دولار في الوقت الذي لا تتجاوز فيه صفقة بيع الأسلحة في جميع أنحاء العالم 55 مليار دولار. وحسب نفس المصدر، فإن صفقات «تجارة الموت» بين البلدين ستتخطى 80 مليار دولار سنويا بحلول سنة 2012 وحتى نهاية سنة 2015. هذه السياسة ليست وليدة اللحظة، بل هي تجسيد مؤسسي لواقع تاريخي. فدول الخليج، على قلة وعيها، كانت ولا تزال مستعدة ليس فقط لشراء الأسلحة الأمريكية بل لتقديم العون بتوفير القواعد العسكرية لأمريكا لتتحول إلى شكل من أشكال الاحتلال الأمبريالي، فقطر تحولت إلى بانتاغون أمريكي بفضل «قاعدة العديد»، وهي أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة، والبحرين، التي تعتبر أصغر دويلة في العالم ولا يتعدى عدد سكانها 600 ألف نسمة، تتبرع لأمريكا بأكبر قاعدة بحرية لأسطولها البحري الخامس، فضلا عن «قاعدة الشيخ عيسى الجوية»، وهي واحدة من أهم القواعد في الخليج لتزويد الطائرات الحربية الأمريكية بالوقود، وفي سلطنة عمان توجد «قاعدة المثنى الجوية» و«قاعدة تيمور الجوية»، أما في الإمارات العربية المتحدة فتوجد «قاعدة الظفرة الجوي»، ويوجد في الكويت معسكر يطلق عليه اسم «معسكر الدوحة» و«قاعدة أحمد الجابر الجوية» و«قاعدة علي السالم» و«معسكر أريفجان». والفرق بين دول الخليج والسعودية هو أن السعودية تحولت بأكملها إلى قاعدة عسكرية أمريكية ولم تعد تملك من أمرها شيئا. إنها حقائق مذهلة على أرض الواقع، ومثل هذه القواعد تخبرنا بالكثير عن نوايا سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية التي تعتبر الحجر الأساس. وكان لا بد من مكافأة المملكتين المغربية والأردنية على فتح سجن «تمارة» الرهيب في ضواحي الرباط العاصمة وسلسلة من السجون في العاصمة عمان وفي شرق صحراء الأردن «لاستقبال المتهمين» تحت «قانون الإرهاب»، لإرهابهم واستنطاقهم في زنزانات التعذيب سيئة الذكر بالطرق اللاإنسانية. وبقرار أمريكي، انضمت المملكة المغربية ومملكة الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي ليستفيد المجلس من خبرتهما في التسلط البوليسي والقمع الوحشي. فالقول إن المملكتين المغربية والأردنية انضمتا إلى مجلس التعاون الخليجي بهدف «تطوير الشراكة والتعاون الاقتصادي بين المجلس وهذين البلدين» يخفي الحقيقة الأساسية وراء هذا الانضمام، ألا وهي الصراع الدائر حول كيفية تحويل مجرى ثورة الشعوب العربية لما يخدم المصالح الأمريكية والغربية. ولن نستغرب إذا انضمت إلى المجلس الجزائروتونس ومصر وليبيا لاحقا بعد سقوط مصاص دماء القرن الواحد والعشرين العقيد معمر القذافي. لقد فات الأوان على تحسين صورة أمريكا في العالم العربي، والتغيير الحقيقي يكمن في السياسة وإعادة توجيهها بعيدا عن الغطرسة الأمبريالية وليس في محاولة إقناعنا بأن «قلب أمريكا» مع «الإصلاح الديمقراطي». لم يعد في وسع أوباما أن يقنع شخصا واحدا في العالم العربي-الإسلامي لأن الفجوة بين الأقوال والأفعال، والدعاية والسياسة، والدبلوماسية العامة وعمق الاستراتيجية العسكرية، تواجه إدارة أوباما وتستفحل أزمتها. ماجستير في الدراسات الدولية-جامعة أوهايو/الولايات المتحدة الأمريكية