لم يعد يستحوذ على بؤرة الضوء، فقد توارى إلى الخلف، بعد سنوات من الحضور القوي والوازن والحاسم في الاقتصاد المغربي.. لكن فجأة عاد مكتب التسويق والتصدير إلى الواجهة، فقد أثار في الثلاث سنوات الأخيرة اهتمام جميع المؤسسات الرقابية الرئيسية، التي اكتشفت فجأة ذلك المكتب الواقع في قلب شارع الجيش الملكي بالعاصمة الاقتصادية، حيث زارته المفتشية العامة للمالية التابعة لوزارة الاقتصاد والمالية قبل ثلاث سنوات، وأنجزت تقريرا، سلم لوزير الاقتصاد والمالية، الذي يقتضي القانون بأن يحيله على وزير التجارة الخارجية، الذي يفترض فيه العمل على استعادة حقوق المكتب، إذا ما ثبت أنه تم المساس بها، غير أن المكتب لم يغر فقط المفتشية العامة للمالية بزيارته، بل استرعي اهتمام المجلس الأعلى للحسابات، إذ حل به محققو هاته المؤسسة الذين حاولوا الوقوف على الوضعية التدبيرية للمكتب، لكن ما إن غادره قضاة المجلس، حتى أثار اهتمام البرلمان، حيث شكل مجلس المستشارين، في الأيام الأخيرة، لجنة لتقصي الحقائق، ينتظر أن تحل بالمكتب كي تنجز تقريرا حول مساره والاختلالات التي شابت عمله، منذ أن تأسس قبل 46 عاما، لكن هل سيفصح التقرير عن كل ما يمكن أن يكتشفه من خروقات واختلالات في المكتب؟ وهل سوف يشير إلى جميع الأشخاص الذين قد يكونون حرفوا المكتب عن مقصده أو استفادوا، بدون وجه حق، من أموال وأصول تعود إليه؟ السنوات السمان بناية المقر الرئيسي لمكتب التسويق والتصدير، التي تحتل قلب الجيش الملكي بالعاصمة الاقتصادية، تشير لوحدها إلى المكانة التي كان يحتلها في الاقتصاد المغربي، الطوابق الخمسة عشر ضمت في أيام مجده حوالي 2000 موظف، قبل أن يكتفي في السنوات الأخيرة بطوابق قليلة ويقلص عدد موارده البشرية بحوالي 95 في المائة، فقد اضطلع عبر المحطات التي توفر عليها في العديد من المناطق المغربية، بدور كبير في ما أصبح يعرف فيما بعد بالتجميع، وتمكن، حسب ما يلاحظه الاقتصادي المغربي، نجيب أقصبي، من وضع أسس علامة Label تدل عليه، بل إن المكتب الذي كان يحتكر تصدير المنتوجات الفلاحية، كان له الفضل، حسب الاقتصادي، إدريس بنعلي، في إدخال بعض الزراعات إلى المغرب، من قبيل التوت.. وقد بلغ المكتب من الحضور والإشعاع، ما فرض وضع تمثيليات له في الخارج، فبناية مقره بالدائرة السابعة عشرة، التي تعتبر أحد مراكز الجذب في العاصمة الفرنسية باريس، كانت تختزل لوحدها طموح المغرب الفلاحي الساعي إلى غزو الأسواق الأوروبية.. لكن ذلك مجد ولى، فقد شرع عقد المكتب في الانفراط اعتبارا من 1986 عندما قرر المغرب تحرير قطاع التصدير، وهو التحرير، الذي كان، كما يلاحظ ذلك إدريس بنعلي، من وصفات برنامج التقويم الهيكلي الذي أوصت به المؤسسات المالية الدولية، مما أفضى إلى ظهور حوالي عشر مجموعات تصديرية خاصة، يرعاها في غالب الأحيان فلاحون كبار، رأوا فرصا سانحة في تولي التجميع والتصدير بعيدا عن المكتب، ليصبح لاعبا من بين لاعبين آخرين في مجال التصدير، ويفقد الكثير من إشعاعه ويتوارى إلى الظل.. قبل أن يعود إلى الواجهة مرة أخرى مع الاهتمام الذي أبدته المؤسسات الرقابية به. خارطة الطريق.. ولكن في سنة 2004 تشكلت لجنة وزارية برئاسة الوزير الأول، وضمت وزارة الفلاحة والصيد البحري ووزارة التجارة الخارجية ووزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيا الحديثة والاقتصاد والمالية، حيث رسمت لمكتب التسويق والتصدير، معالم خارطة الطريق التي يفترض فيه أن يسترشد بها إذا ما أراد أن يضطلع بالدور المنوط به، فقد أوصت اللجنة بتصفية ممتلكات المكتب وتحسين وضعيته القانونية والمالية وإعادة هيكلته وإعداد استراتيجية جديدة له.. غير أنه تجلى، حسب مصدر مطلع، أن المكتب الذي لم يعقد مجلسه الإداري بين 2002 و2008، لم يمتثل لتوصيات اللجنة الوزارية سوى في الجانب المتعلق ببيع الممتلكات وإفراغه من موارده البشرية، وضرب صفحا عن الدعامات الأخرى التي أريد لها أن تبث الحياة في المكتب. هذا الحماس الذي أبداه المكتب في بيع الممتلكات، خاصة في الفترة الفاصلة بين 2005 و2007، تثير الكثير من التساؤلات لدى المراقبين، فحسب البعض يفترض أن يتم التصديق على عملية بيع الممتلكات من قبل مجلس الإدارة، فكيف أجاز هذا الأخير ذلك، علما أن مجلس الإدارة يرأسه وزير التجارة الخارجية؟ ذلك سؤال مفتوح يجهل كيف قاربته المفتشية العامة للمالية أو المجلس الأعلى للحسابات، علما الفترة التي ركزا عليها عند البحث والتحقيق، شهدت بيع أهم أصول وممتلكات المكتب، غير أن الملفت للانتباه في السنوات الأخيرة، هو أن اللجنة الوزارية لم تلتئم منذ تشكيلها من أجل الوقوف على ما أنجز وما لم ينجز من توصياتها، مما يطرح العديد من التساؤلات حول حالة السبات التي دخلت فيها. سؤال الممتلكات عندما عين المدير الحالي على رأس مكتب التسويق والتصدير، التمس بعث المفتشية العامة للمالية، كي تقوم بمسح لوضعيته، خاصة في الفترة التي لم يكن ينعقد فيها مجلس الإدارة والتي دامت من 2002 إلى 2008.. تلك مهمة اضطلعت بها المفتشية التي انتهت إلى خلاصة تفيد بأنه يتوجب استعادة حقوق المكتب. تفاصيل تلك الحقوق ما زالت غير معروفة، فما تضمنه التقرير مطبوع بختم السرية، لكن ما رشح من معطيات يشير إلى أنه بين ما كانت عليه المؤسسة في الماضي، وما آلت إليه، تطرح العديد من التساؤلات التي يفترض أن تجيب عليها المؤسسات الرقابية. إذ أن السؤال العريض، الذي يفترض التعاطي معه، حسب بعض المراقبين، يتمثل في كيفية تفويت ممتلكات المكتب؟ فالبعض ينتظر أن يلقى ضوء الحقيقة على الظروف التي تم فيها تفويت عقاراته، وعلى رأسها بناية تمثيلية المكتب في باريس وبناية مقر المكتب بمدينة أكادير التي تشير إلى الوجه الفلاحي لسوس ماسة درعة، ناهيك عن العديد من الفيلات والأراضي التي كانت تحسب ضمن أصول المؤسسة، غير أن الغموض لا يلف فقط طريقة تفويت تلك العقارات وقيمتها الحقيقية، بل يمتد إلى طبيعة العلاقات التي كانت تربط بعض الفلاحين الكبار بالمكتب، ومدى وفائهم بما في ذمتهم تجاه المكتب.. مصدر مطلع، يعتبر أن ملف الفلاحين يمكن التعاطي معه باستحضار الإكراهات، مثل الظروف المناخية أو تلك المرتبطة بالسوق، التي يمكن أن تكون أعجزت بعضهم عن أداء مستحقات المكتب، لكن نفس المصدر يشدد على أن البحث يجب أن ينصب أكثر على ملفات الفلاحين الذين استفادوا من أموال المكتب في ظروف يشوبها الكثير من الغموض، فتلك ملفات ذات حساسية مالية ومبنية على العلاقات.. ذلك غيض من فيض التساؤلات التي تثور عند الرغبة في فتح ملف مكتب التسويق والتصدير ألم ينقل عن أحد الوزراء السابقين قوله إن ذلك يشبه دس اليد في سلة مليئة بالأفاعي؟. البرلمان يتقصى
تلك السلة عزم البرلمان على دس يده فيها، فهل تحميه «الحصانة» من لسع الأفاعي؟ فقد لوح مجلس المستشارين منذ أشهر باعتزامه تشكيل لجنة لتقصي الحقائق. تلك اللجنة التي انتخبت قبل أيام. الذين كانوا يرون ألا جدوى من لجنة لتقصي الحقائق، في ظل وجود تقرير المفتشية العامة للمالية وترقب تقرير المجلس الأعلى للحسابات، عبروا، في بعض الأحيان، على مضض، عن تقبلهم للجنة التي تكتسي طابعا دستوريا. لكن ألم يكن من الممكن الاعتماد فقط على تقرير المفتشية والمجلس؟ محمد دعيدعة، رئيس فريق الفيدرالية الديمقراطية للشغل بمجلس المستشارين، يجيب بأنه تمت مراسلة المؤسستين الرقابيتين من أجل الحصول على النتائج التي توصلتا إليها لكنهما لم تتفاعلا بشكل إيجابي مع المؤسسة التشريعية، هذا ما برر التصدي لعملية التحقيق التي يراد منها أن ترصد حسب دعيدعة، الاختلالات التي شابت عمل المكتب، إذ يبدو أن اهتمامها سوف ينصب أكثر على عمليات تفويت الممتلكات وطرق تحديد أثمنتها؟..لكن كيف ستشتغل اللجنة؟ يجيب دعيدعة، أنها لكن تكتفي بالوثائق المحاسبية التي ستوفر لها، بل سوف تستأنس بما توصل إليه تقريرا المفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات، غير أن اللجنة لن تقف عند هذا الحد، بل ستستدعي المدراء العامين الذين تعاقبوا على رأس المكتب. رئيس الفريق الفيدرالي في مجلس المستشارين، يتوقع أن تنتهي لجنة تقصي الحقائق من وضع تقريرها خلال ثلاثة أشهر، إذا سارت الأمور على ما يرام.. وهو يجزم بأنها عاقدة العزم على القيام بمهمتها إلى أبعد حد.. فهل تدس اللجنة يدها في قاع السلة؟