وفقا لمعادلة الربح والخسارة، ثمة سؤال: ما الذي استفادته الدولة من إقدامها على اعتقال رشيد نيني، هل النوازع القضائية المحضة هي التي كانت وراء تحريك مسطرة المتابعة وتحرير قائمة الادعاءات؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، وإلا لكان من المنطقي تحريك هذه المسطرة منذ أول مقال كتبه رشيد وبدا فيه للدولة ما يستوجب المتابعة. والحاصل أن أي شيء من هذا لم يحصل، اللهم بعض الدعاوى الفردية التي تعتبر عادية أو حتى بديهية في مسار أي صحفي مهني ممارس، ولاسيما إذا كان يتمتع بحس نقدي مبدع ونزعة صدامية وقلم قادر على ترويض اللغة وتسخيرها لخدمة الفكرة بأسلوب يجمع، في آن واحد، ما بين السخرية والنقد. ثم إن الغالبية منا، نحن سكان هذا البلد، تحمل في طياتها نفس النقد الذي يحمله رشيد للعديد من القطاعات، وإن بدرجات متفاوتة، نقدا دعانا إلى التوقف مرتين، قصد البحث عن مفاهيم جديدة للسلطة وللقضاء (على سبيل المثال لا الحصر). لأجل هذا، لا أجد في نفسي أدنى حرج من القول بأن الدافع الرئيسي الذي حرك هذه المتابعة إنما يتمثل في إسكات هذا الصوت الصادح بالممنوع وردع قلم صاحبه الذي أخذ يتخطى حدود الحظر الحمراء ويكتسح مجالاتها المسيجة يوما بعد آخر، في حين لا يتوفر للدولة الآن أي تقدير لمنحنيات هذه الجرأة الزائدة ولا للنتائج التي قد تترتب عنها. لذا فقد كان من الضروري -في نظر الدولة- أن تعمل على «قرص أذني» السي رشيد، لتذكيره بأن الخطوط الحمراء ما زالت تؤطر مسارات الحلبة وترسم مداراتها، وأن الحرية مشروع مطروح ولكنه مؤجل إلى حين. منطق كهذا لا يحتمل إلا تفسيرا واحدا، وهو اقتناع الدولة المبدئي بأن لا شيء في سجل نيني يفترض المتابعة، وبأن مآل هذه القضية إلى الطي والتسوية، لكن ليس قبل أن «تتضح الرؤية» لديها وتنجح «القوة الردعية» في تنفيذ مهمتها القمعية وإرجاع الأقلام المسلولة إلى أغمادها، حقنا لسيل الفضائح الذي لا يمكن إلى حد الآن التنبؤ بحجم نزيفه... فالقضية، إذن، قضية ردع ليس إلا أو «تدبير وقائي»، كما يقول فقهاء القانون. هنا بالذات، سقطت الدولة في «المأزق» وانقلب عليها السحر من دون أن تدري، ذلك أن وهج التضامن مع رشيد، الذي اشتعل مباشرة بعد تنفيذ مخططها الردعي، ما فتئت حرارته تحمى يوما بعد آخر وباتفاق يكاد يُجمع عليه بين كل الأطياف، الفاعلة وغير الفاعلة، في بلادنا وعبر شتى المجالات، جماعات وأفرادا، تضامن أكسب رشيد قاعدة شعبية عريضة لم ينل عشرها حتى أعتى الساسة. هذا، إذن، أول انتصار لرشيد وفاتحة المكاسب، وقد ساهما في الرفع من حجم مبيعات «المساء» وتثبيت رصيد الثقة بها بين الناس، إنها الهدية التي لا يحق لرشيد أن يتنكر لها، جميلٌ تستحق الدولة أن تشكر عليه، فحملة علاقات عامة مثل هذه، تُنفق عليها الآلاف وقد لا تكون بمثل هذه النتائج... أما المأزق الثاني، وهو الأكبر في نظري، فيتمثل في الحرج البالغ الذي وضعت الدولة نفسها فيه، ولعلنا نتذكر هنا ذلك التحدي الشهير الذي ذيل به رشيد نيني إحدى مقالات النارية، عندما قال إن ما يكتبه لا يتحمل إلا واحدا من أمرين: فإما أن يكون افتراء وبهتانا يستوجب المتابعة (وهذا ما كان رشيد يستبعد حدوثه بالنظر إلى تأكده التام من صحة ما كتبه وإلا ما كانت هناك مدعاة إلى رفع التحدي)، وإما أن ما كتبه صحيح ولا غبار عليه، وبالتالي يتعين على الدولة تحريك مسطرة المتابعة ضد من قصدهم نيني تصريحا أم تلميحا في مقالاته... المؤسف أن الدولة اختارت الطريق السهل أو «الحيط القصير»، وقررت بالتالي متابعة رشيد، لكنها، في ظني، أخفقت في تقدير نتائج هذا القرار لعدة أسباب: منها، أولا، المناخ العام المخيم على بلادنا والذي لا يمكن تصوره إلا مساندا لقضية نيني، أما ثانيها فيتجسد في الرأي العام الذي بات مقتنعا، أشد ما يكون الاقتناع، بأن هناك بؤر فساد كثيرة وأن نيني لم يقم إلا بواجبه المهني في التنديد بها ولفت الانتباه إليها، ومن ثم يجب التضامن معه، وهذا ما حصل معه من طرف كل الأطياف المشكلة لهذا الرأي، أما السبب الثالث فيتجلى في ضرورة عدم تجاهل الظرفية الخاصة التي تعيشها مهنة الصحافة اليوم في بلادنا، والتي يطالب كل المهنيين بتصحيح أوضاعها عن طريق تمتيعها بقانون خاص يصنف «الأخطاء الصحفية ويقدر عقوباتها»، بحيث يكون هو الأساس الذي تنبغي على ضوئه متابعة الصحفيين (في ما يتعلق بالمهنة طبعا)، وليس بناء على مقتضيات القانون الجنائي، وهذا ما يفسر التضامن الواسع الذي لقيه نيني من زملائه في الميدان، بل وحتى من بعض الذين كان معهم على خلاف وكانت مواقفهم معه على طرفي نقيض. لأجل هذا، إذن، أنا متيقن مليون في المائة بأن الدولة ستقدم على إطلاق سراح نيني وتمتيعه بحق العودة إلى نشاطه في أقرب الآجال، لكن ليس قبل أن تنجح -حسب ظنها وتقديرها- في تمرير رسالة الردع إلى نيني وعبره إلى كل العاملين في رحاب صاحبة الجلالة... أنا شخصيا لا أتوقع لها النجاح في ذلك، وأكاد أجزم بأن الجسم الصحفي، وضمنه نيني، سيخرج من هذه القضية أشرس وأجرأ مما مضى، إذ الممنوع مرغوب دائما... الآن نيني يقول إنه «فخور بأدائه لنصيبه من ضريبة التغيير»، وهذا يعني أن الشق الأول من التحدي في طريقه إلى الطي، يبقى الشق الثاني، إذن، وهو المتعلق بموقف الدولة، أي متابعة كل المفسدين الذين لاحقهم نيني في مقالاته، فهل الدولة مستعدة لرفع التحدي وبالتالي أداء نصيبها هي الأخرى من ضريبة التغيير...؟ إنه المحك، المأزق، الورطة التي اختارت الدولة أن تضع نفسها فيها، سنرى مع تمنياتنا لها بالنجاح. أما نحن، فإننا لأطوار هذا المسلسل لمتابعون... رشيد لبكر - أستاذ زائر بكلية الحقوق بالمحمدية