أعرف، ربما، غرفا وممرات في هذا المكان الفسيح المسمى رشيدا لا يعرفه عموم قرائه ومعجبيه وألد أعدائه. عرفته يافعا، يجمع كما تجمع زهور الأقحوان بين نسائم وأشواك، بين ألوان فاتحة وقتامة تعيسة... ولِمَ لا وهو تجسيد لازدواجية النفس العميقة للذات المغربية في اغترابها الجميل، المتصالح مع الآخر، دوما، والقاسي مع الذات، أزلا؟... عرفت رشيدا شابا، ونحن مازلنا شبابا، طلبة متجمهرين حوله مشدوهين بقوة إقناعه نحو الثورة والقسوة ونتذكر كم كان قاسيا في نضاله من أجل أن يوفروا لنا حافلة تُقلّنا من باديتنا، حيث كنا، إلى مدينة أو بادية من الإسمنت المسلح، لكي نلج دراستنا الجامعية الهائمة والتائهة. أتذكره يوم انهمرت الدماء من على رأسه وهو يتعرض لتعنيف كان يحس فيه رشيد بلذة أبيقورية خاصة... كان يقول لنا، بنبرة ازدراء وتحدٍّ، إنه لا مصالحة مع اللئام... فقط تحدّوا الطغاة وسيذهب الألم مع ما تسببه لنا عزة النفس من «تبنيج» للألم... فقط تذكروا الوالدة وستصير صدوركم دروعا وأفذاذكم شموعا. أتذكره، حينما وجد من ينشر له بنات أفكاره... وكم كان قويا حتى وهو يتعرض لإهانة التعويضات الهزيلة التي كان يمسك بها بيد ويمسك امتعاض قلبه في الأخرى... أتذكر حينما علقوا عليه كليشيهات قاسية، كالبربري التائه في الشاوية والأديب الأحول الغمر والصحافي الصعلوك... لكنْ، أليست هي نفسها مقومات كل كاتب فذ خارج عن الإطار؟... والويل لكل الإطارات المكبلة للإبداع والكتابة. أتذكر رشيدا عندما باح لي بسر يوما... عندما قال لي إن الصحافي الذي لا يساهم، على الأقل في المغرب، في حماية أموال المغاربة الزهيدة من البطش والسرقة هو صحافي آثم يأكل من موائد اللئام... بحتُ له بالمجازفة فاستهزأ من خوفي الطفولي... كشفت له عن استحالة الأدلة... فقال لي شيئا أخذته منه درسا أخلاقيا طالما أعيش: «عندما يتعلق الأمر بالسرقة... فإنك، حتما، سارق مع السارق إذا لم تصح لتشويش طريق هروبه»... والسارقون في المغرب كثر، ولم يكن سوى رشيد من دفع ثمن صياحه اليومي، ليقطعوا الطريق على السارق. لست خائفا على صديقي، فأنا أعرف مدى صبره وأن ظهره مليء بنتوءات الغدر والظلم وقسوة البطش... لا شك، وهو الآن مستلق على أريكة في غرفة مظلمة ليستريح... فقد وفّروا له جميع شروط القوة... رشيد لن يمسك عن الكتابة ولو على جدران زنزانته!...