عندما دعا فوزي الصقلي، مدير مهرجان الثقافة الصوفية ومدير مهرجان الموسيقى الروحية في فاس، على هدي الفيلسوف وعالم الاجتماع إدغار موران، إلى تلقيح العولمة بالفكر الروحي، كان يسعى إلى إنقاذ العولمة من مزالق وانحرافات التكنولوجيا وأيضا إلى إخراج الفكر الروحاني إلى حيز أرحب، حتى يساير أسئلة الحداثة. وتأتى شرعية هذا المطمح من تجربته الصوفية الشخصية وأيضا من مرجعية أبحاثه في موضوع التصوف، مع العلم أنه ألّف عدة كتب، أهمها «النهج الصوفي» (1985)، «آثار نورانية» (1996) و«المسيح في التراث الصوفي» (2004). وكانت الوثبة النوعية التي حققها التصوف أحد العوامل المساعدة على ترسيخ وتوسيع مجالات شعار «روح من أجل العولمة»، إذ شرع الجامعيون ودور النشر الغربية، بعدما خبت شعلة التصوف، في العناية مجددا بدراسته وترجمة متونه. كما رافقت الندوات والمناظرات هذه الفورة التي كان من آثارها إقبال قسم من الجمهور الغربي على الإسلام الصوفي، أعلامه ومدارسه. ويكاد المغرب يكون من بين الدول العربية التي ما يزال فيها التصوف في وضع انتعاش مستمر، حيث أبقى على التصوف كتجربة للحوار، المفتوح على تعددية الآخر، الآخر بصفته نصا وذاتا. وتكفي نظرة بسيطة إلى تشكيلة وجنسية المحاضرين المشاركين في نسخ مهرجان فاس للموسيقى الروحية منذ انطلاقته عام 1994، أو إلى مهرجان الثقافة الصوفية لتكوين فكرة عن روح العولمة التي تدمغ توجهاته. قد تبدو الرابطة بين التصوف والعولمة رابطة شاذة ومن دون قوام متين. لكن المطالبة برد الاعتبار إلى مكانة الروحانيات وإلى التجربة الداخلية أصبح في تزايد مطرد، ولذلك أسباب أهمها الأزمات الاقتصادية، السيكولوجية، الأخلاقية والفكرية، وهي أزمات بنيوية ما فتئت تستفحل يوما بعد يوم، لتجد ترجمتها في المعدلات المرتفعة للانتحار، في حوادث السير، الكوارث الطبيعية، الحروب، الأمراض المزمنة والقمع المنهجي... إلخ. في ظل هذه الظروف، يجد الإنسان نفسه في عزلة قصوى وتبقى تجربة الداخل ملاذَه الأول والأخير. وقد جرب المتصوفة، بدورهم، هذه الأوضاع القصوى وعبّروا عن قسوتها من خلال نصوص رؤوية ما زالت نبراسا في المتن الصوفي الإسلامي. فنصوص الحلاج، البسطامي، ابن عربي، السهروردي والنفري في أبواب وتجارب البلوى و المحنة... تعتبر من النصوص النيِّرة التي لم تفقد زخمها ودلالتها. في بعض البلدان الإسلامية، ما يزال التصوف ، بما هو أقلية فكرية وطقوسية، ينبض حيوية. وهذه الفورة هي التي قادت بعض الأنظمة إلى استقطاب أو محاولة استقطاب التصوف بهدف «كسر شوكته» أو تحويله إلى جدارية إشهارية ل«منجزاتها». يعود فوزي الصقلي لإدارة المهرجان بطموح إلى إحداث نقلة نوعية تمكن هذه التظاهرة من أن تحظى بالمزيد من الشفافية على المستوى الوطني والدولي. وفي هذا الاتجاه، وضع خطة عمل وتصورا يندرجان ضمن ما أسماه «المؤسسة الثقافية»، التي هي كلية لا فرق فيها بين العمل الثقافي والتسيير الإداري والمالي، إذ على المشرف أو المسؤول عن هذه المؤسسة أن يكون مثل المهندس والمخطط الذي له دراية شاملة بجميع معطيات الملف. وكل من يمارس الثقافة يجب أن يكون رجل ميدان ورجل تسيير، وعليه القيام بالتحكيم بين جميع كل هذه الجوانب، لأنه العمود الفقري لتوازن المؤسسة. «إن هذا التصور الجديد الذي يجمع بين التسيير الثقافي والتسيير الإداري والبشري هو الذي يحكم عملنا في إطار هذا المهرجان»، يقول فوزي الصقلي. ويضيف: «يندرج تحملي مسؤولية تسيير المهرجان في هذا الإطار. نحن مقبلون على خيارات تنظيمية هامة ويجب وضع الثقة في جميع العاملين الذين يبذلون كل الجهود لإنجاح هذا المهرجان. ومن دون هذا النفَس لا يمكن لأي مشروع أن يرى النور. نحن أمام خيار نوعي يتمثل في المناخ الذي نحاول تمريره بين مختلف التعابير الفنية والثقافية. هذا المناخ هو الذي يجعل الناس يرتادون المهرجان ويحجون لمتابعة فقراته. تلك هي الخاصية التي تمنح مهرجانا ما بصمته الخاصة. يتردد المتفرجون على المهرجان لاكتشاف نكهة مميزة ومناخ خاص... أي أنهم يأتون لأجل شيء من الصعب تعريفه، هو الفن، هو الروح وهو الحياة، لذا يجب إعطاء السلطة للثقافة وللفاعلين الثقافيين، لأن بمقدورهم إضفاء طابع التميز على حدث ما، بدل أن يكون حدثا عاديا. الروح، الهوية، المناخ تلك هي الصفات المميزة التي تجعل مهرجانا ما غير شبيه بمهرجان آخر، لذا يأتي المستمع والمتفرج إلى مهرجان فاس، لأنه مهرجان ليس له مثيل في العالم. وأود أن أطرح مسألة تبدو لي في غاية الأهمية وتتعلق بالإنتاج الثقافي في بلدنا، وهي مسألة تتعلق بالمؤسسة الثقافية التي تتطلب تسييرا إداريا من الداخل، الشيء الذي يتطلب إقامة حوار مع مكونات أخرى ضمن فضاء اجتماعي يتكون من المسؤولين، المشاركين ومن طموحات الجمهور. في هذا الإطار، أجدني كمنشط لمجموعة من الفاعلين الذين يعملون إلى جنبي ومعي، تبعا لنفس الروح ونفس الفلسفة، لإنجاح فعاليات المهرجان. على المسؤول عن المؤسسة الثقافية أن يقدم تصورا عن دور الثقافة في فضاء عمومي، وعليه أن يعين أيضا، أن كفاءاته هي محصلة للكفاءات الجماعية للعاملين والفاعلين معه وإلى جانبه. توجد هذه الخاصية في قلب التفاعل والإبداع، وهي التي ستقودنا، عاما بعد آخر، إلى وضع الثقافة في إطار يبدع ويخلق تعابير فنية جديدة وتيمات جديدة.
التصوف والثورة مع الثورات العربية، يطرح اليوم السؤال عن مكانة التصوف في هذه المجتمعات: ما هو دوره؟ أهدافه؟ والرهانات الثقافية، السياسية والروحية المطروحة عليه؟ وبما أنه فكر إصلاحي بالأساس، ما هي نقط التزاوج بينه وبين الإصلاح السياسي؟ بكلمة، فالرهانات المطروحة على التصوف اليوم عديدة. كما لا يمكن للتصوف تجاهل التغيرات السياسية التي اعترت العالم العربي الإسلامي: من انبثاق تنظيم القاعدة إلى الشبيبة الرقمية، مرورا بتشكل الفكر الطرقي، الذي أصبح مؤسسة معرفية وسلوكية وازنة. وتنظم نسخة مهرجان الموسيقى الروحية تحت عنوان «حكمة العالم»، في ظرفية جيو -سياسية تتميز بالمد الثوري في المجتمعات الإسلامية، برغبة الانعتاق من أسر الطغاة، بالتوق إلى الكرامة ومحاربة الفساد والاستغلال... إلخ. لا تعدو هذه المطالب كونها مطالب صوفية وستكون، بنوع ما، في قلب ندوات المنتدى المزمع عقده في هذا الإطار. هكذا، ستناقش مواضيع دينية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية وبيئية... إلخ. في نظر فوزي الصقلي، كان من السهل خلال هذه الدورة التركيز فقط على الحفلات الموسيقية والتركيز في المنتدى على تيمة التداخل الثقافي، «لكننا نسعى إلى تكسير فكرة النقاش ضمن حلقة مفرغة، للتركيز على كل مشاغل العالم، مع إضاءة مسالك التفكير والممارسة، ذاك هو الفرق بين المناظرة والمنتدى. فهذا الأخير يرافق أحداث العالم. والرهان في منتدى فاس هو إحداث الرابطة بين المسألة الروحية والمسألة الاجتماعية، السياسية والاقتصادية... ويستقبل هذا المنتدى أشخاصا ينتمون إلى عوالم ومشارب متنوعة: عالم السياسة، الفكر، السوسيولوجيا، الاقتصاد. الشيء الذي يعزز من اختيارنا هو أن البعد الروحاني مغيب، بشكل دائم. ولو وقفنا عند التيمة الرئيسية لنسخة هذا العام لوقفنا عند سلسلة أسئلة أهمها: ما هي أسس الفكر الحديث، سواء كان دينيا أو دنيويا، سواء كان فلسفيا من الشرق أو من الغرب؟ ما هي أشكال الفكر التي يمكن أن تكون سندا لنا في حياتنا اليومية؟ أي مستقبل للشرق الأوسط؟ ما هي أسباب وجذور ثورات الربيع العربي؟ أي آفاق للمغرب العربي الجديد؟ مسألة أخرى ستكون ضمن محور النقاش: جذور الأزمة المالية وجذور أزمة الحضارة. ثم هناك مسألة الحكامة والرشوة. ما دور الثقافة في حياتنا؟ كيف ترسخت ثقافة الرشوة في فضائنا؟ في هذا الصدد، نستدعي أخصائيين للتباحث في الموضوع، كما نحتضن معرضا عن الحِكَم والأمثال الشعبية في موضوع الرشوة والارتشاء. كما نخصص صبيحة لمناقشة موضوع الديمقراطية، في أوجهها الإيجابية والسلبية. ذلك أن الديمقراطية، في جانبها السلبي، يمكن أن تخلق رؤساء من طينة برلسكوني أو ساركوزي. نحن بصدد أنماط شعبوية لا بصدد أشكال متفتحة للديمقراطية. وبما أننا عند عتبة تجارب جديدة للديمقراطية ، فمن واجبنا طرح هذه الأسئلة، بغاية خلق نقط التقاء ثقافية تُمكّننا من الإفلات من المخاطر والمزالق، خصوصا أن ديمقراطيتنا توجد في وضع هش. المطلوب من المهرجان، إذن، مساءلة كل المقتضيات النظرية والمنهجية بروح نقدية وبلا مواربة، فالتصوف يجب ألا يبقى حبيس تخريجات عتيقة أو شطحات غيبية، بل يجب أن ينخرط في جدلية زمانه.