إذا كان من أحدٍ ينتَهِكُ حُرْمةَ قضية فلسطين في الوجدان العربي ويتبرَّع على العالم بأسوإ صورة ممكنة عن الحركة الوطنية الفلسطينية وعن نضال الشعب الفلسطيني، فلن تجد أفضل من حركتيْ «حماس» و»فتح» تمثيلا له. فلقد ارتكبتا من الكبائر السياسية في حق الشعب والقضية ما لم يَعُد يجوز لأيّ مواطن عربيّ أن يَسْكُتَ عنه حتى وإن كان منحازا إلى إحدى هاتين القبيلتين السياسيتين: إن كانَتَا قد تَرَكَتَا لأحدٍ منّا أن ينحاز إلى أيّ منهما بعد كل هذا النزيف المادّي والمعنويّ الذي تعرَّضت له القضية على يديْهما! يتساءل كثيرون عن السبب وراء هذا العزوف المتزايد في أوساط الرأي العام الشعبي العربي عن الاهتمام بقضية فلسطين، وعن التراجُع المروّع في حركة التضامن في الشارع العربي في السنوات الثلاث الأخيرة على الرغم من طفرة الأخبار والصور المتدفقة من غزة والضفة والناطقة بالحجم المخيف من المعاناة الإنسانية لشعب رازح تحت الاحتلال والحصار والقتل اليومي. ويتساءل ناشرو الكتب والمجلات عن سبب الركود المفاجئ في الأسواق العربية للعناوين المتعلقة بالقضية الفلسطينية. والجواب الذي لا يُخْطئُه عقل فاحص هو أن المسؤولية في ذلك التراجع إنما تقع على الذين حوّلوا السلاح إلى صدور بعضهم البعض، وحوّلوا الصراع مع إسرائيل على الأرض والحقوق إلى صراع بينهم على «السلطة» واسترخصوا دماء أبناء شعبهم من أجل إرضاء شهوات الحكم والتسلط في أنفسهم! أين كان يختبئ كل هذا الشغف المخيف وغير العادي بالسلطة عند الحركتين، وكيف خَفِيَ أمرُهُ طويلا على الناس؟ ولماذا أفصح عن نفسه على نحو مفاجئ ومن دون مناسبة تبرّرُه، أعني من دون أن تكون الدولة قد قامت وتهيأت شروط الصراع عليها بين أبنائها؟ ثم لماذا هو لا يُفُصح عن نفسه إلا في شكل دمويّ إفنائي؟ أسئلة كثيرة تحاصرنا ونحن نعاين هذه الفصول المتعاقبة من العبث تَعْرض نفسَها على مسرح السياسة والسلطة في الضفة الغربيةوغزة! يتصرف «الحاكمون» في رام الله وكأن أمْرَ غزةَ والحصارَ الذي يخنُقها ويحوّل أهلها إلى محتجزين في سجن كبير لا يعنيها بالقدر الذي يعنيها استمرار خط الاتصال مع حكومة إيهود أولمرت و«التفاوض» على «حلّ نهائي». ومع أن رئيس السلطة، محمود عباس، أقدم على خطوة شجاعة بإعلانه الرغبة في حوار وطنّي شامل لتنفيذ «اتفاق صنعاء»، من دون ربط في حوار وطنيّ شامل لتنفيذ «اتفاق صنعاء»، من دون ربط ذلك ب«تراجع «حماس عن انقلابها» (كما كان يقول في السابق)، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل حتى الآن. بل إن في جملة القريبين من محيطه، ممن لا يطيب لهم إنهاء هذه الحالة الشاذة من حرب داحسَ والغبراء الفلسطينية، من يَضَعُ على الحوار اشتراطات (لم يضعها أبو مازن) على النحو الذي يذهب بالحوار إلى حتفه أو –على الأقل- بما يزيد من توتير الأجواء ويُبَاعِدُ الشقة بين الفريقين. لكن الخَطْبَ يَعْظُم في غزةَ أكثر حيث سلطة هناك لا يبدو عليها أثر من دروس الماضي ولا كثير ولا قليل من الاّتعاظ بسوابق غيرها في إدارة شؤون شعبٍ تحت الاحتلال! من يتابع تصرفاتها السياسية يَذْهَل، لذلك القدر المخيف من الخِفّة الذي تبديه حِيال وحدة الشعب والوطن. حتى أن المرء منّا يَفْجَؤُهُ السؤال عمّا إذا كانت سلطةُ غزّة حقّا سلطةَ حركةٍ كانت في قلب المقاومة والحركة الوطنية أم إن القائمين عليها يستعيرون اسم «حماس» لإسباغ الشرعية على سلطتهم على نحو ما فَعَل غيرُهُم زمنا طويلا باسم «فتح»! ولا يَظْنَنَّ أحدٌ أننا بهذا الاستفهام إنما نُزايِدُ أو نُمَاحِك. فالذي نعلَمُه، على وجه اليقين، أن الحركةَ التي تحكم باسمها سلطةُ غزة لاتعترف بشرعية «اتفاق أوسلو» المشؤوم، فكيف تكون السلطةُ –وهي من مؤسسات أوسلو- سلطةَ حركة تعزَّزت شرعيتُها الوطنية والشعبية برفضها هذا الاتفاق المشؤوم؟! ثم إن الذي نَعْلَمُهُ –بيقينٍ أكبر- أن حركة «حماس» حركةٌ مُقاوِمة، وتمَسُّكها بخيار المقاومة في سائر الظروف والأحول هو ما صَنَع لها في الناس هيبة وسلطانا، فكيف تصبح التهدئة مع الاحتلال كلّ برنامج السلطة التي تحكم باسم «حماس» المقاوِمة، وهل يفوتُ أيّ مبتدئ في السياسة أن يدرِك أن مفهوم التهدئة ليس أكثر من اسم مستعارٍ مهذَّب لوقف المقاومة؟! هل يرضي «حماس» –إذن- أن تُرْتَكَبَ هذه الكبائر السياسية باسمها؟! على «حماس» أن تجيب عن هذه «النازلة»: هل السلطة (في غزة) سلطتَها أم سلطة مفروضة عليها؟ إن كانت سلطتَها، فلْتَكُفَّ عن تقديم نفسِها كحركة مقاومة ولْتَضَع حدّا لمزايداتها السياسية مع حركة «فتح»، فهي لها شبيهٌ ونظيرٌ ونسخةٌ مع فارق لا يحْسُن بنا تجاهلُهُ: هو أن قسما عظيما من «فتح» عارضَ السلطة وقيادة حركته طيلة حقبة سيطرة «فتح» على السلطة، فيما لم يَبلغنا حتى الآن أن في صفوف «حماس» من يعارض سلطة غزة! أما إن كانتِ السلطةُ مفروضة على «حماس»، فلا مندوحة لها من إعلان ذلك على الملإ وتمييز نفسها عنها لتبرئة الذمة من فظاعاتها، ذلك انه لا يشرّف حركة مقاوِمَة أن تسكت على تنكيل السلطة بفصائل المقاومة وملاحقة المقاومين في «سرايا القدس» و«كتائب شهداء الأقصى» لأنهم «يخرقون التهدئة»، أي –«بلغة فصيحة»- لأنهم يقاتلون الاحتلال، ولا يشرّفُها أن تسمع من يقول بوحدة سلاح السلطة في غزة: الشعار نفسه الذي كان يرفَعُهُ أبو مازن لتجريد «حماس» والمقاومة من السلاح! إن المرء لَيَشْعُرُ بالأسف والمرارة وهو يعاين كيف تنزلق «حماس»، أو السلطة الحاكمة باسمها في غزة، إلى ممارسة عَيْنِ ما فعلتْهُ السلطة التي حكمت باسم «فتح»، لا بل إلى ممارسة ما هو أفدح. بالأمس، تُمْنَع «فتح» من أداء الصلوات الجماعية في الساحات العامة خوفا على «الأمن»! واليوم يؤخَذُ رموز «فتح» الوطنيون في غزة –كزكريّا الآغا وأبو النّجا- إلى السجن، ويتحوّل رجلٌ من عيار أبو ماهر حلِّس إلى شيطان رجيم وإلى «مجرم» يخطط لقتل المدنيين ويبعث رجالَه للتنفيذ! ولو كان هاني الحسن أو فاروق القدومي في غزةَ لاقْتيداَ إلى السجن، فكل فتحاويّ –عند «سلطة حماس»- دحلانيٌّ إلى أن يثْبُتَ العكس، وربّما حتى لو ثبت العكس! ما الذي تريدُهُ «حماس» أو سلطتُها بعد أن أخذت كلَّ شيء في غزة؟ هل تَضيق بالمعارضة الوطنية إلى هذا الحدّ بعد أن ضاقت بسلاح غير حمساوي يخرق هدنتها مع الاحتلال؟ هل فكّرت في ما عليها أن تدفَعَهُ من صورتها لقاء التمسُّك بهذا «النظام السياسي» الذي يحاكي أمثالَهُ من الأنظمة العربية في الاستبداد وقمع الحريات، وكيف ستصير صورتَها غدا عند الشعب؟ هل فاتَها أن «فتح» قبلها دفعت ثمن هذه الصورة التي قدّمتْها عن نفسها للشعب؟ وقبل هذا وبعده، إذا كانت سلطة غزة مجسَّما سياسيّا صغيرًا للدولة الفلسطينية (التي لم نَعُدْ نعرف كيف ستأتي في نظر «حماس» بعد وقف القتال مع الاحتلال!)، أو نواة ابتدائية وتأسيسية لهذه الدولة، فرحمةُ الله على حقّ تقرير المصير وعلى تضحيات الذين ناضلوا من أجله. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.