في المدة الفاصلة ما بين 11 و25 غشت 2008، يعيش شارع محمد الخامس بالرباط جواً غير معهود، ويفتقد أحد المشاهد الاعتيادية فيه، فقد قررت التنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة توقيف نشاطها بالشارع والاستفادة من «عطلة نضالية». إن التنسيقية ليست طبعاً هي الإطار الوحيد الذي يضم الأطر العليا المعطلة، إلا أنها تتميز باحتضانها لأكبر عدد من مجموعات المعطلين، فهي تمثل 17 مجموعة، وبذلك فإن لقراراتها تأثيراً بالغا على مجرى الحركة النضالية لحاملي الشهادات العليا المعطلين حالياً في المغرب. لقد خُير أعضاء التنسيقية من طرف هيأتهم المسيرة بين فترة راحة تمتد من 11 إلى 25 غشت وأخرى تمتد من 11 إلى 30 غشت، فاختاروا الفترة الأولى، وتفرقوا على أمل الالتقاء بعد عودة الوزراء وكبار المسؤولين من عطلهم، مع تأمين حد أدنى من المداومة من طرف مكتب التنسيقية. وللتذكير، فشهر غشت تاريخياً يمثل شهر ركود للحركة النضالية الوطنية للمعطلين على العموم. ومع ذلك فإن اتخاذ قرار بتعليق الأنشطة النضالية المرئية بالشارع لمدة محددة وبعد التداول، يجعلنا إذن أمام «هدنة» رسمية. وقبل ظهور التنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة، كان المجازون المعطلون في المغرب قد شكلوا لجانا للتحرك في عدة مدن مغربية خلال منتصف الثمانينات، وخاضوا نضالات محلية للاحتجاج خصوصاً ضد ما اعتبروه طابعا انتقائياً ولانظاميا للمباريات التي كانت تنظم هنا وهناك لتشغيل الخريجين. في 25 و26 و27 أكتوبر 1991، انعقد المؤتمر التأسيسي للجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين بالمغرب تحت شعار «الشغل حق وليس امتيازا»، وذلك بمقر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بالبيضاء. وصنفت الجمعية نفسها كإطار تقدمي، مستقل، جماهيري وديمقراطي. وفرت الجمعية الوطنية لنفسها فضاء ديمقراطياً لاتخاذ القرارات، وكانت هذه الأخيرة تصدر عن الجموع العامة المحلية في القضايا المحلية، وعن المجلس الوطني المشكل من ممثلي الفروع في القضايا الوطنية. أما المؤتمر فيحضره مندوبون منتخبون عن كل فرع. وخاضت الجمعية نضالات متنوعة تراوحت ما بين الإضراب عن الطعام والمسيرات والاعتصامات، وزودت ساحة الصراع الاجتماعي بخبرات وبأشكال غير مسبوقة للاحتجاج. وبعد ظهور المجلس الوطني للشباب والمستقبل، وقع لبعض الوقت خفوت في عمل جمعية المعطلين، إذ اعتبر الكثيرون أن هذا المجلس هو بمثابة وكالة للتشغيل. واستحدثت الجمعية نظاما داخليا لتنقيط أعضائها في ترتيب الأسبقية للتشغيل، يعتمد على تاريخ الالتحاق بالجمعية والوضعية العائلية والمشاركة في مختلف الحركات والنضالات المبرمجة، مما جعل البعض يعتبر أن احترام هذه المقاييس في تحديد أهلية الاستفادة قبل الآخرين من فرص التشغيل المتاحة، يعني أن الدولة تشجع وتكافئ الاحتجاج الصاخب. لكن تشغيل الأطر التي كانت الأكثر نشاطاً وحضوراً في حلبة التحرك والاحتجاج له معنى سياسي آخر، فهو أيضاً يفرغ تلك الحلبة من فاعلين أقوياء الشكيمة وشديدي البأس والإقدام. وظلت الجمعية تواجه دوماً بتهمة المطالبة بشحن الوظيفة العمومية بطاقة بشرية زائدة عن اللزوم ورفض الشغل في القطاع الخاص. بينما الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين تطالب أولاً بتوفير ضمانات حقيقية متعلقة بالاستقرار الوظيفي من أجل ولوج قطاع غير مهيكل ولا يحترم مدونة الشغل بالنسبة إلى أغلبيته الساحقة. وخلال مسيرة الجمعية، حصلت حالات إجهاض متعددة لبعض المعطلات وأصيب بعض المعطلين والمعطلات بإعاقات وعاهات مستديمة، وأجريت للبعض منهم عمليات جراحية لمعالجة آثار التدخلات العنيفة لعناصر القوات العمومية، وتعرض الكثيرون للمحاكمة، كما أن وفاة مصطفى الحمزاوي قد تمت في ظروف تعتبرها الجمعية ناجمة عن قمع حركتها النضالية المشروعة. وبالرغم من أن الجمعية لم تستطع التوفر على وجود قانوني، ومقرات للعمل، وعلاقات خارجية، ورصيد من الأدبيات التي تقدم دراسات مفصلة للرد على خصومها، فإنها استطاعت، حسب عدد من الباحثين، أن تؤثر في مسار وأشكال الصراع الاجتماعي وثقافة الاحتجاج، وأسست بهذا الصدد مدرسة نضالية قائمة بذاتها. واليوم، تواصل الجمعية نضالاتها، وهي تهم المعطلين من حملة الإجازة. وظهرت بجانبها إطارات تهم حاملي شهادات عليا تفوق الإجازة (دبلوم الدراسات العليا المعمقة والدكتوراه)، وهؤلاء ينتظمون في إطار التنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة -وهو الإطار الأشد بروزاً في مسرح المواجهة التي يعرفها شارع محمد الخامس بالعاصمة حالياً وإطار «المجموعات الأربع»، وإطار«التجمع الوطني» الذي استوعب «الموحدة» و«الفيدرالية». وبالرغم من أن كل مجموعة تنظم نفسها وتضاعف جهودها وتسعى إلى كسب أكبر قدر من المناصب، فلقد ظهر أن التكتل يفيد التجربة النضالية للمعطلين ويقوي شوكتها ومضاءها ومهارتها الميدانية. للتنسيقية مطلب واضح يتمثل في الدعوة إلى «تطبيق بنود المحضر الحكومي المؤرخ في 2 غشت 2007، القاضي بالإدماج الشامل في أسلاك الوظيفة العمومية طبقاً للقرارين الوزاريين 99/888 و99/695» و«تفعيل لجنة الحوار المغيبة لأزيد من ثمانية أشهر». وإذا كانت نضالات التنسيقية قد حظيت باهتمام الرأي العام بسبب جرأتها وإحكامها وعنفوانها، فإن ذلك لم يتم عفواً، بل استند فيه إلى قانون صارم ل«الضبط»، فهناك لجنة مختصة تتكفل بتسجيل الحضور ومتابعة عمل الأعضاء، فمن تغيب مثلاً خلال 3 معارك متتابعة أو خلال 6 أيام في الشهر يتخذ في حقه قرار الإقصاء الأولي، وهناك لجنة لمعاينة الأعضاء المصابين وتحديد مدة الرخصة الممنوحة لهم للتغيب عن المعارك. وهكذا يوضع سجل للتنقيط عن الحضور وعن الصمود والمتابعة في المعارك المصيرية. عند نقطة التقاء الأعضاء تسجل قائمة الحضور، ثم تسجل قائمة أخرى خاصة بالتواجد في ساحة المعركة والمساهمة فيها، وتسجل قائمة نهائية عند انتهاء المعركة. عادة يكون الملتقى قريبا من مقر الاتحاد المغربي للشغل، ثم تعين الوجهة التي سيقصدها الأعضاء، وهي في الأغلب الحديقة المقابلة للبرلمان، ومن خلال أسلوب مواجهة الحركة تتحدد السيناريوهات البديلة، وقد ينتقل المشاركون حسب الظروف من شارع محمد الخامس إلى شارع الحسن الثاني، ثم ينفض الاجتماع أمام ساحة باب الأحد أو بجانب مقر الاتحاد المغربي للشغل. وفي آخر التظاهرة، يسهر مكتب التنسيقية على تحديد موعد اللقاء المقبل وعلى جرد حصيلة نشاط اليوم وإخطار الرأي العام. وتواجد أعضاء التنسيقية في الشارع يتم بشكل يومي تقريبا، على امتداد أربعة أيام في الأسبوع. أما أيام الجمعة والسبت والأحد، فهي في العادة فترة للراحة، والتظاهرات والوقفات تتم في النصف الثاني من النهار في الأغلب. ويعمل المعطلون المنضوون تحت لواء التنسيقية على نسج علاقات ثقة بينهم وبين المارة في الشارع، ولا يستهدفون إدخال هؤلاء المارة في المعارك أو الاصطدام معهم أو خلق متاعب لهم. ويحظى المعطلون بمختلف مجموعاتهم بتعاطف الناس الذين يتواجدون بالشارع، حتى أصبح مألوفا أن نشاهد إغماءات بعض النساء أو صفير شباب يحتج على التدخل العنيف لأفراد القوة العمومية. إن حركة المعطلين، من خلال النموذج الذي تشخصه التنسيقية، تعتبر في نظر أعضائها حركة ضرورية ومصيرية ولا محيد عنها، فهي صوت أبناء طبقات شعبية لا تتوفر على أية وسائل خاصة لضمان تشغيل أبنائها، وهي الملاذ الأخير لأطر سُدت في وجهها سبل الإدماج، هذا يخلق لديها استعداداً كبيراً للتضحية. لقد تم إنقاذ حياة عدد من المعطلين في مناسبات مختلفة بعد محاولات فاشلة للانتحار، رغم أن هؤلاء في الأصل وحتى وهم يرفعون شعار «عاهدنا العائلات، إما الشغل أو الممات»، فإنهم لا يحملون حتى الآن نزوعا عاماً ومسبقاً إلى الموت، ولا يمثلون كيانا بشريا تحكمه ثقافة انتحارية. إن التنسيقية الوطنية للأطر العليا المعطلة، تضم في أغلبها معطلين من خارج جهة الرباطسلا-زمور-زعير، بمعنى أنهم يتحملون متاعب وتكاليف السفر والإقامة بالعاصمة. وهناك توازن بين نسبتي النساء والرجال، وهو ما يؤشر إلى التحولات الحاصلة في أحشاء المجتمع المغربي، فلم يظهر في لحظة من اللحظات أن النساء كن أقل صموداً أو أقل مواظبة أو أن مواقف أسرهن شكلت عائقاً في وجه مشاركتهن بحجم يطابق نسبة تواجدهن كمعطلات. الأغلبية الساحقة لأعضاء التنسيقية، ليس لها انتماء وليست هناك علاقة «عضوية» مع حزب من الأحزاب، ولا يمكن لأحد اليوم الزعم بأن حركة التنسيقية مثلاً تندرج في خطة لتصفية حساب سياسي، بل هي حركة اجتماعية خالصة، لها مطلب مركزي واضح. ويعتمد تمويل التنسيقية أساساً على مساهمة الأعضاء رغم ظروفهم المزرية، وأحياناً تم اللجوء إلى طلب دعم من خارج التنسيقية لتأمين علاج حالات الإصابات الخطرة التي أسفرت عنها التدخلات العنيفة للأجهزة الأمنية. هناك معطلون من أعضاء التنسيقية بلغوا الأربعينات من العمر، تقبل الدولة تشغيل عدد منهم في جامعاتها كزائرين وتعترف بكفاءتهم ولا توفر لهم شغلاً نظامياً وقارا. ورغم استعمال الآلية الديمقراطية في عمل التنسيقية، فإن هناك قدراً من المركزة الذي تفرضه ظروف المعارك، حيث يحظى المكتب و»لجنة الميدان» بهامش كبير للتقرير في سير المعارك. وسواء من خلال التنسيقية أو من خلال الإطارات الأخرى، فإن حركة المعطلين عموماً قد أضحت رقما بارزاً في معادلة الحراك الاجتماعي، ونقلت عدوى الاحتجاج إلى فئات اجتماعية أخرى، وأصبح الطلبة يعتبرون أن مآلهم غداً بعد التخرج هو الاعتصام أمام البرلمان والالتحاق ب»حركة لكل الخريجين»، علما بأن احتمال التعرض للإصابة كمشارك يبدو مرجحاً، وأفرزت الحركة نخبة ميدانية ذات خبرات عالية تنتقل من جيل إلى جيل، فرغم غياب الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وضعف الانتماء الحزبي التقليدي في الأوساط الطلابية، فإن عطالة الأطر أضحت تشكل مختبرا لتخريج نخبة نضالية جديدة من حقها علينا أن ننصت إليها ونتعلم منها.