العالم والأمي والفقير والغني اجتمعوا تحت سقف بناية، إنها دور العجزة في المغرب التي تؤوي أشخاصا تقطعت بهم أواصر الأسرة صغيرة كانت أو كبيرة، فوجدوا أنفسهم لاجئين في هذه المراكز بعدما بلغوا من الكبر عتيا يتقاسمون آلامهم بعدما أدار لهم أقاربهم ظهورهم. عالم مليء بالمتناقضات بين الحاضر والماضي وبين المال وانعدامه...لكن داخل دور العجزة تجد الناس سواسية، لا فرق بين هذا وذاك بعد أن تحطمت آمال الكثير منهم، وعصف بهم الفقر في أرذل العمر إلى «مقبرة لدفن عز الماضي» وانتظار انقضاء العمر في صمت ليدفن مرتين في حياته، كأنه لم يمر يوما من هنا. «المساء» تخترق عالم العجزة في المغرب، وكيف أصبحت دور العجزة دخيلة على المجتمع المغربي وتنقل لكم من خلال هذا الملف حكايات أناس تقطع بهم حبل الغنى والثروة في جحيم العدم.
صراخ وكلام مختلط يعتلي الجدران والنوافذ لا تعرف من أي جناح يصدر، يعطيك إحساسا بأن المكان ليس كأي مكان، يولد لديك شعورا غريبا قد يخيل إليك بأنك أخطأت الوجهة نحو أحد الأضرحة المعروفة، حيث تجد جميع الشرائح وتصادفك ظواهر وطقوس غير مألوفة لمن لم يتعود زيارة هذه الأماكن. بمركز تيط مليل توحي لك الصورة بأنك بين مكبلي ضريح مولاي يعقوب أو مصروعي «بويا عمر»، حيث يتوزع المرضى والعقلاء والأطفال والمشردون والمتسولون بين الأجنحة الخاصة بهم، ولا يقتسمون معاناتهم سوى في الساحة التي تعري عن الفرق بين النماذج التي يستقبلها المركز. ففي الوقت الذي يجد فيه المشردون والمتسولون في مثل هذه المراكز ملاذا آمنا، فإن فئات من الميسورين والأغنياء، منهم مهاجرون مغاربة في الخارج، لم تجد في هذه المؤسسة سوى واقع رديء وقدر بئيس بعد حياة العز والحرية، أما الآخرون الذين لا ينتمون لا إلى فئة الميسورين ولا إلى فئة المشردين، فيجدون في المركز فضاء يستعدون فيه لشبح الموت الذي ينتظرون قدومه في أي لحظة، نظرا إلى غياب أي أنشطة تُلائم الفئات المسنة في المغرب، كأن دار المسنين ليست سوى محطة لانتظار قطار متهرئ سيأتي حتما في وقت مجهول. تستقبلك رؤوس تطل من النوافذ وشقوق الأبواب المسيجة، لا تستطيع أن تفرق بين الذكر منها والأنثى، فأغلب الرؤوس محلقة، لولا أسماء الأجنحة التي تحدد طبيعة ذلك. بابتسامة جافة يطبعها الخوف تارة والغرابة تارة أخرى، ينتظر نزلاء خيرية تيط مليل قدوم أحد المحسنين لتوزيع بعض الأكل واللباس عليهم، أو أحد أفراد العائلة من قريب أو بعيد، علهم ينقدون من اختنقت أنفاسه داخل هذه الزنازن. في زوايا أخرى لا تسمع إلا الآهات التي تعبر عنما بدواخل المسنين، الذين رمت بهم الأقدار إلى الخيرية، ليس حبا فيها، وإنما هروبا من الشارع ومخالب ذئاب مجتمع لا يرحم. من يدخل مركز تيط مليل الذي يؤوي فئات من جميع الأصناف، ويدخل جناحا بجناح سيجد واقعا مغايرا غير الذي يبدو ظاهريا، يصادف ظواهر وحالات اجتماعية لم يألفها من قبل، ويجد أمامه أناسا مهمشين يُقبلون يد الزوار ويتوسلون إليهم من أجل إخراجهم من المركز، وآخرون يرسلون إشارات تدل على الرغبة في الهروب إلى عالم الحرية. الملاحظ أن المرضى لا يتحملون البقاء داخل الغرف الفوضوية المختلطة بين المدمنين المتسولين والمختلين، حيث تستقبلك روائح العفن والسجائر وأشياء أخرى، ولا يجد هؤلاء سوى باحة الأجنحة بملابسهم الرثة والممزقة والرؤوس الحليقة. طرحنا سؤالا على مساعد اجتماعي بالمركز حول هذا الأمر، فتهرب من الإجابة واكتفى بالقول بأن المرضى لا يتحملون الشعر الطويل، علما أنهم يعانون من انتشار الميكروبات والقمل وسط هؤلاء، ومنهم من أصيب جراء ذلك بأمراض جلدية لم يجد لها دواء سوى الجلوس تحت أشعة الشمس، علها تخفف من حدة الإصابة. إلى جانب ذلك، تصادف تحرشات المختلين بالنزيلات في ساحة المركز، خاصة عندما يسدل الليل ستاره، تقول إحدى النزيلات التي رفضت الكشف عن اسمها إن النساء يتعرضن إلى تحرشات جنسية من قبل المختلين الذين يجوبون الساحة ويطرقون عليهن أبواب النوافذ في غياب المراقبة، خاصة وأن هؤلاء مرضى ولا يمكننا عقابهم أو الصراخ في وجوههم، أضف إلى ذلك الإزعاج الذي يسببه هؤلاء. وأضافت أن هناك نساء من داخل المركز هن من عودن هؤلاء المختلين على القدوم إلى خلف النوافذ، إما لبيع السجائر أو شرائها، وكذلك التجمعات الثنائية التي بين بعض النساء والمختلين عقليا، والتي تضايق عددا من المسنات، خاصة الأكبر سنا، إلى درجة أن هذه السلوكات أضحت تنطبق على الكل، كما تشير إلى ذلك المقولة الشعبية «حوتة وحدة كتخنز الشواري». وأتممت حديثها بأن هذا راجع بالأساس إلى عدم الأخذ بعين الاعتبار من قبل المساعدين الاجتماعيين مثل هذه التصرفات التي أضحت تستشري في أوساط النساء، دون مسؤولية، «ونحن نخجل أن نخبر المسؤولين عن هذه التصرفات المخلة بالحياء، خاصة وأننا متقدمات في السن». في جوانب أخرى من المركز، لا ترى سوى عبارات مكتوبة على جدران الأجنحة تترجم الوضعية الاجتماعية والنفسية المتأزمة لهذه الشريحة من المجتمع، التي لم تستطع سوى تفريغ ما بدواخلها من معاناة ظلت حبيسة، ولم تجد طريقة للتعبير عنها سوى بالانزواء في ركن من أركان الأجنحة، التي غالبا ما تكون غير مكشوفة، وكتابة عبارات تعبر عن همومها في هذه المؤسسات، والبعض الآخر لم يستطع أن ينسلخ عن ماضيه ويفضل الخلود للنوم طيلة اليوم وأخذ مسكنات تجعله يعيش عالما آخر مليئا بالأحلام التي لا تفارقه بل تحمله إلى عالم المتعة والمال ليستيقظ بغتة، فيجد نفسه بين قضبان العجزة. في ساحة مركز تيط مليل حركة غير عادية للنزلاء الذين التفوا حول رئيسة إحدى الجمعيات الخيرية التي تزورهم بانتظام، تقدم لهم بعض الأكل والملابس، وهي فرصة ثمينة أمام عدد ممن تعودوا على التسول، حيث لا يترددون في طلب بعض الدريهمات من الوافدين للزيارة أو المحسنين، وهي مسألة عادية وجار بها العمل في المركز، خاصة من أدمن التدخين ولا يتوفر على المال لشرائه، وفئات أخرى تنزوي بعيدا وترفض أن تمد يدها للغير.