هناك طرق كثيرة للتعبير عن مشاعر المحبة تجاه الملك، أسوأها على الإطلاق تلك التي يقوم بها مجموعة من الشباب المنتظمين داخل مجموعات في ال«فيسبوك» أطلقوا على أنفسهم «حركة 9 مارس»، والذين خرجوا قبل أيام إلى الشوارع في الدارالبيضاء للتعبير عن محبتهم للملك بإطلاق منبهات السيارات والتلويح بصور الملك والأعلام الوطنية. ويبدو أن هؤلاء الملكيين، الذين يريدون أن يكونوا أكثر ملكية من الملك، يبحثون بكل الطرق والوسائل عن حشد الدعم لمسيرتهم، التي أطلقوا عليها «مسيرة الحب»، والتي يعتزمون تنظيمها الأحد المقبل بالدارالبيضاء للإشادة بالخطاب الملكي الأخير. مسيرة بهذه الطريقة تبدو في ظاهرها حركة عفوية لإظهار مشاعر المحبة للملك، لكنها في العمق إساءة كبيرة للملك، لأن مثل هذه المسيرات تعطي الانطباع بأن المغاربة منقسمون حول الملكية، جهة معها وجهة أخرى ضدها، والحال أن لا أحد من الذين خرجوا إلى حدود اليوم في كل مدن وقرى المغرب رفع شعارا يتهجم فيه على الملك أو يخل فيه بالاحترام الواجب لشخصه. ومن يعود إلى قراءة لافتات الشباب، الذين ينزلون بالآلاف نهاية كل أسبوع، التي يكتبون عليها مطالبهم، سيجد أن هذه المطالب لا تخرج عن مطلب الدستور الديمقراطي، ومحاربة الفساد وتقديم المسؤولين عنه للمحاكمة، وتخليص المحيط الملكي من بعض العناصر التي اغتنت بفضل قربها من الملك، وتحرير الشعب من الشركات الرأسمالية المتوحشة التي تنهب جيوبه أمام صمت وتواطؤ الجهات الوصية والمنتخبين. ومنذ 20 فبراير إلى اليوم لم نسمع أحدا من المتظاهرين يعبر عن موقف أو شعار معاد للملك أو فيه إخلال بالاحترام الواجب لشخصه أو للأسرة الملكية. لماذا إذن يسعى البعض إلى وضع الملك في الواجهة ووضعه في موقف يحتاج إلى الدفاع أو التعبير العلني عن المحبة لشخصه؟. لقد أثبتت الأحداث المتلاحقة بعد الخطاب الملكي أن هناك وجودا لقوى خفية تحاول ما أمكن إفشال التوجه الثوري الذي أبداه الملك عندما رفع سقف مطالب التغيير أعلى من الأحزاب وأعلى من مطالب الحركات الاحتجاجية. وإذا كان الملك مستعدا للتخلي عن جزء من سلطاته، فإن هذه القوى الخفية ترفض التنازل عن سلطاتها ومصالحها، مما يعني أن هذه القوى الخفية تعتبر نفسها أقوى من الملك ومن الشعب. إن الملك ليس بحاجة إلى مسيرات في الشوارع لإبداء مشاعر المحبة والود تجاه شخصه، بل بحاجة إلى مسيرات في الشوارع للمطالبة بتخليص البلاد من هذه القوى الخفية التي تريد تقسيم البلاد إلى خندقين، واحد يقف إلى جانب الملك وآخر يقف في مواجهته. إن هذا التوجه الخطير ستكون له انعكاسات جد كارثية على استقرار البلاد إذا تمت تغذيته وتقوية شوكته، خصوصا بعدما حظيت «حركة 9 مارس» باستقبالات رسمية لوزراء في الحكومة، على رأسهم الطيب الشرقاوي وزير الداخلية. إننا جميعا نعرف من يتحكم في دواليب وزارة الداخلية، والطيب الشرقاوي ليس في حقيقة الأمر سوى منفذ للتعليمات التي تصله من فؤاد عالي الهمة، الذي لم يغادر قط دهاليز هذه الوزارة. خلال بدايات ظهور هذه الحركة، اتصل بي بعض شبابها طلبا للنصيحة والمشورة، والتقيت بمجموعة منهم في الرباطوالدارالبيضاء، واستمعت إلى أفكارهم وبرامجهم، فوجدت أنها تتمحور كلها حول طرق مواجهة «حركة 20 فبراير» كرفضهم حديث هذه الحركة باسم الشباب المغربي بأسره، واستعدادهم لمواجهتها في ال«فيسبوك» وعلى الساحة. وكان رأيي الشخصي صريحا جدا، فقد قلت لهم: إنكم كشباب يجب أن تنخرطوا في معركة المطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد. معركتكم ليست ضد شباب مثلكم لديه وجهة نظر مخالفة لوجهة نظركم، ولكن معركتكم الحقيقية يجب أن تكون ضد الفساد والمفسدين. من باب الاختلاف وحرية الرأي يجب أن تقبلوا بوجود حركات شبابية لديها شعارات ومطالب لا تشبه بالضرورة مطالبكم وشعاراتكم. المهم أن تلتقوا جميعا حول مطلب الإصلاح ومحاربة الفساد. لكن يبدو أن هذا الرأي لم يجد آذانا صاغية، فقد أصر شباب هذه الحركة، ومحركوها الذين تربو أعمارهم على الخمسين، على حصر معركتهم في مواجهة «حركة 20 فبراير»، والتعبير عن محبتهم للملك في مسيرات تشبه كثيرا مسيرات أبطال «موقعة الجمل» في القاهرة، سوى أن المصريين استعانوا بالنوق والجمال، فيما شباب «مسيرة الحب» يستعينون بالسيارات الفخمة والدراجات النارية. إن أفضل تعبير عن محبة الملك هو الانضمام إلى الحركات الاحتجاجية المطالبة باجتثاث رؤوس الفساد في المغرب، لأن أكبر من يهدد الملكية والشعب في هذه البلاد ليسوا هم شباب التظاهرات، وإنما من يهددهما معا هو غول الفساد الذي أصبحت له أذرع في الإدارة والمؤسسات السياسية والقضائية والأمنية. يجب أن لا يخطئ الشعب معركته اليوم، فالملك أعلن صراحة انضمامه إلى صفوف شعبه من أجل إقرار مبدأ المراقبة والمحاسبة واستقلالية القضاء من أجل محاربة الفساد بكل أشكاله. ولذلك فالملك ليس اليوم بحاجة لمن يعلن له الحب وإنما هو بحاجة لمن يعلن معه الحرب على هذا العدو الفتاك الذي يسمى الفساد. ولعل أقصى درجات التعبير عن محبة الملك هي تلك التي يعبر عنها كل من يساهم انطلاقا من موقعه الخاص، بسلطته الأمنية أو القضائية أو الإعلامية، في حماية أمن وممتلكات البلاد وصد هجمات القراصنة واللصوص الذين يريدون السطو عليها. لذلك سيكون مفيدا أن تبتعد هذه الحركة الشبابية عن الدوائر الرسمية من أجل النجاح في إيصال صوتها وخوض معركتها إلى جانب التشكيلات الشبابية الأخرى. فليس الجلوس إلى جانب وزير الشباب والرياضة، الذي ستشرف شركته على توزيع سجائر الشركات العالمية، التي تستهدف صدور وجيوب الشباب والمراهقين المغاربة، هو ما سيمنحهم المصداقية التي يبحثون عنها. كما أن الجلوس إلى وزير الداخلية والتنسيق معه حول الوسائل التي سيحتاجونها من أجل جلب أكبر عدد ممكن من المشاركين في مسيرتهم التي يعدون لها الأحد المقبل، ليس هو ما سيعطي حركتهم القوة التي يبحثون عنها. وحتى إذا نجحت مسيرة الحب هذه فلن تكون سوى نسخة باهتة للمسيرة التي سهر على تنظيمها رجال فؤاد عالي الهمة في الدارالبيضاء، بتنسيق مع الداخلية، للرد على الحزب الشعبي الإسباني. لكي تكون حركة هؤلاء الشباب ذات مصداقية وفعالية فيجب عليها أن تنضم إلى هذه الحركية العامة التي انخرطت فيها البلاد منذ 20 فبراير، والتي منحها الملك بخطابه أفقا أكثر رحابة وشمولية. أما فكرة تنظيم مسيرات وتظاهرات بزعيق السيارات وشعارات «عاش الملك» و«ملكنا واحد محمد السادس»، فتعود إلى مغرب انتهى منذ صبيحة 20 فبراير عندما سقط جدار النفاق السياسي، الذي جعل كل احتجاج شعبي غير مصحوب بصورة الملك يعني مباشرة أن أصحابه ضد الملك. وإذا كان هؤلاء الشباب فعلا يحبون الملك فعليهم أن يساعدوا الملك لإنجاح الإصلاحات الدستورية وتفعيل مضامينها على أرض الواقع، بالتركيز على مطلب محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين، خصوصا في سلك القضاء، الذي بدون إصلاحه ستفشل كل مشاريع الإصلاح الأخرى. أما إبداء مشاعر المحبة تجاه الملك بشكل عفوي، فهذا ما يشترك فيه المغاربة جميعهم، مما يعني أن احتكار هذا الشعور من طرف فئة معينة وجعله ذريعة للنزول إلى الشوارع يعتبر إقصاء غير مقبول لبقية فئات الشعب الأخرى. بعبارة أخرى، فمحبة الملك لا يجب أن تصبح أداة للمزايدة في الشوارع. الملك يوجد في مرتبة مميزة وخاصة، ويجب أن يكون في منأى عن المناوشات. نعم لعرض صلاحيات وسلطات الملك في الدستور للمناقشة، لا لعرض شعبية ومحبة الملك للقياس في الشوارع والساحات. الذين يريدون وضع الملك في الواجهة يغامرون برمز يوحد البلاد ويضمن استقرارها، ويعرضون صورته للخدش ويضعون مشاعر المحبة تجاهه موضع مساءلة. والحال أن المغاربة في غنى عن هذه «الامتحانات» المتسرعة لشعبية الملك أمام الملأ، في ظرفية عالمية تسلط فيها الأضواء على المغرب من كل الاتجاهات. على الذين يبحثون بإعلانهم مشاعر المحبة والولاء الزائدين عن حديهما أن يفهموا أن أحسن طريقة لتعبيرهم عن محبة الملك هي المساهمة في التفكير والبحث عن اجتهادات دستورية جريئة ومتقدمة لإثراء النقاش الدائر حاليا حول هذه الوثيقة التي سترهن حاضر ومستقبل المغاربة.أما الذين يريدون من خلال هذه الحركات البهلوانية المنافقة أن يظهروا ولاءهم للعرش، مختبئين وراء شباب هذه الحركة، فعليهم أن يفهموا أن الاختباء وراء ظهر الملك من أجل الاستمرار في الاستفادة من الامتيازات لم يعد يجدي نفعا. من يحب الملك فعلا عليه أن يكون مستعدا للتخلي عن امتيازاته التي جمعها بفضل قربه من الملك. فلا معنى لاستمرار هؤلاء في التمتع بامتيازاتهم إذا كان الملك نفسه قد أبدى استعداده للتخلي عن جزء من سلطاته في الدستور. إلا إذا كان هؤلاء يعتقدون أن امتيازاتهم أهم من سلطات الملك، فهذه حكاية أخرى.