من المعلوم أن الشعوب العربية لم تنزل إلى الشوارع معبّرة عن احتقانها وغضبها إلا بعد أن بلغ السيل الزبى، بسبب إمعان الأنظمة الفاسدة في إهانتها واحتقارها أمام أنظار العالم، الذي بات يحتقر هذه الشعوب، لخنوعها وخضوعها وقابليتها للذل والهوان. وبمجرد اندلاع أول ثورة في أول بلد عربي كان الفساد السياسي فيه قد بلغ أوجَه واستنفد نظامُه كل أساليب القمع البوليسية، تداعت الشعوب العربية، كتداعي الجسد الواحد بالسهر والحمى، لعلة عضو من أعضائه. ولم تنفع الأنظمة العربية إجراءات فصل شعوبها عن بعضها البعض، عن طريق الحدود والأسلاك الشائكة وتأشيرات الدخول والخروج... وصارت عدوى النزول إلى الشوارع فوق الحدود وفوق الأسلاك الشائكة وفوق تأشيرات الدخول والخروج. ونظرا إلى غباء الأنظمة الفاسدة، فإنها لا تعرف معنى للحكمة القائلة «مصائب قوم عند قوم فوائد». ولم يستفد النظام المصري من النظام التونسي، الذي جرب العنف أولا و»البلطجية» ثانيا، بعد اليأس من تسليط الجيش على الثورة الشعبية. ولم يستفد النظام الليبي من النظامين التونسي والمصري وظن أنه «أذكى» منهما، فجرّب العنف بالسلاح الثقيل، الذي لم يُجْدِه نفعا. ولم يستفد النظام اليمني من غيره من الأنظمة المتهالكة وما زال يراهن على السوقة والرعاع والقبلية، وهي فئات بسيطة، تساق سوق الأنعام، لأنها الفئات التي كانت -دائما- «بطلة» الانتخابات المزورة، عن طريق الرشاوى البخسة، لتحكم الأنظمة مدى الحياة، ثم يصير الحكم بعدها وراثيا... وأمام سقوط الأنظمة المنهارة، أو التي هي في طريق الانهيار، لم تستفد باقي الأنظمة، التي لا تختلف عن الأنظمة المنهارة، من غيرها لأن واقع العالم العربي أن وضعية الشعوب واحدة ووضعية الأنظمة واحدة. لم تستفد الأنظمة التي تنتظر دورها من الثورات والهزات الشعبية شيئا من الأنظمة الساقطة وما زالت تراهن على العنف وما زالت تفكر في حيل «البلطجة» وما زالت تحلم بتسليط الجيوش على الشعوب الثائرة وما زالت تراهن على تقسيم الشعوب إلى موالين لها ومعارضين، مع أن كل هذه الأساليب لم تجد نفعا من سبقها... ومن الأساليب التي عمدت إليها الأنظمة المتوجسة من الزوال الحتمي اللف والدوران، من أجل الالتفاف على الثورات الشعبية، من خلال التظاهر بقبول الاحتجاجات السلمية، ومن خلال إعطاء الوعود بالإصلاحات غير المستساغة، باعتبار طبيعة هذه الأنظمة الواعدة بها وباعتبار تاريخها الأسود. وما تلك الوعود إلا محاولة يائسة من تلك الأنظمة لكسب المزيد من الوقت الكافي من أجل التأكد من جدوى أساليب القمع من جديد. ولعل هذه الأنظمة تترقب نتائج البلاد التي نجحت فيها الثورات لتقتبس منها أساليب الإصلاحات، إذا ما نجحت، وهي تتمنى -من أعماقها- ألا تنجح، لتؤكد أن بقاء الفساد أجدى وأنفع للشعوب العربية وأن أفضل الأساليب لسياسة الشعوب العربية هي أساليب القمع والتفقير والاحتقار والإذلال أمام شعوب العالم. وأمام محاولات الأنظمة العربية الفاسدة الالتفاف على ثورات شعوبها السلمية، تقف الدول الغربية، الصانعة لهذه الأنظمة الفاسدة، موقف النفاق المعهود فيها، فهي في الكواليس تبذل ما في وسعها لتمديد عمر الأنظمة الفاسدة، وأمام الإعلام، تتظاهر بأنها تقف مع الشعوب ولا تبالي بالتناقض في مواقفها، لأن مواقفها تابعة لمصالحها ولا تستند إلى قيم وأخلاق ومبادئ. وقد سكتت الدول الغربية عن الأنظمة الفاسدة عقودا طويلة، بل وكانت تُشيد بها وتعتبرها «صديقة» وتتعامل معها، فلما «لفظت» الشعوب هذه الأنظمة، انقلبت عليها الدول الغربية، بعدما يئست من استمرارها، وأخذت تطالبها بالرحيل، لأنها لم تعد تقدم لها «الخدمات»، كما كانت. فهذه هي سياسة المصالح الغربية، التي تميل حيث تميل مصالحها ولا تعنيها القيم والأخلاق التي تسوقها للاستهلاك الإعلامي فقط... تعمل الدول الغربية ليل نهار من أجل منع قيام أنظمة تكون لفائدة ولصالح الشعوب العربية، والدليل القاطع على ذلك أن زعامات الأنظمة المنهارة ما زالت تنعم بالحرية وبعدم المتابعة القانونية والجنائية، مع أنها ارتكبت ما يسمى جرائم الإبادة الجماعية ضد الإنسانية ونهبت أموال شعوبها التي ما زالت محفوظة في خزائن الدول الغربية، بل لم تفكر الدول الغربية حتى في محاكمة من تجاوز حدود استعمال عنف الشرطة و»البلطجية» إلى عنف الطائرات والدبابات، وما زال الغرب لم يصرح بنية محاكمة النظام الليبي على ما يسميه جرائم ضد الإنسانية، كما كان في الماضي سباقا إلى محاكمة ما سمي جرائم جنوب السودان و«دارفور»... لقد افتضحت مسرحيات «محاربة الإرهاب» وتنظيم «القاعدة»، المحبوكة، بين الأنظمة العربية الفاسدة والدول الغربية، التي بررت بهذه الحرب الوهمية احتلالَها العراق وأفغانستان، من أجل البترول ومن أجل المواقع الإستراتيجية، لتأمين مناطق الثروات وتأمين الكيان الصهيوني، رأس البلاء في العالم. وقد سقطت أكذوبة «محاربة الإرهاب» في اليمن، حيث تبيَّن أن النظام الفاسد هو صانع ما يسمى «الإرهاب» وتنظيم «القاعدة» بأموال غربية، تستخلص من ثروات البترول العربي من أجل ذر الرماد في العيون، إلا أن العيون العربية اكتسبت مناعة ضد هذا الرماد وصارت تبصر بشكل جيد. وقد فكرت الدول الغربية، منذ مدة، في إشعال نار الحروب الطائفية في الوطن العربي ولن تتردد في تحويل الرعاع والسوقة الذين تحتمي بهم الأنظمة العربية الفاسدة إلى طابور خامس يُسلَّط على الشعوب الثائرة بعد اتهامها بالإرهاب وبالانتماء إلى تنظيم «القاعدة»، كما حاول النظام الليبي في البداية ولم تُجْده «الحيلة» نفعا، لأنها كانت مكشوفة الحبكة ومحرجة للدول الغربية. وقد تحاول الدول الغربية هذه اللعبة القذرة في بعض البلاد العربية، التي سبق لها أن روجت فيها مسرحية محاربة الإرهاب وتنظيم «القاعدة»... وأخيرا، نؤكد أن الأنظمة العربية الفاسدة، ومن ورائها الدول الغربية التي تساندها، ستستنفد كل الحيل من أجل الالتفاف على ثورات الشعوب العربية، التي لم تعد تخشى الرصاص واكتسبت «عادةَ» مواجهته بصدور عارية، لأنها تأكدت أن ذلك هو ثمن حريتها وانعتاقها وخروجها من مربع التخلف والتخلص من استخفاف شعوب العالم بصمتها وصبرها على الذل والهوان، وهي أمة يأبى عليها ماضيها المجيد الذلَّ والهوان... محمد شركي - مفتش ممتاز لمادة اللغة العربية بالتعليم الثانوي