حظي موضوع الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب -وما زال- باهتمامات الفاعلين السياسيين باختلاف مواقعهم واتجاهاتهم، حيث نظمت بشأنه العديد من الندوات والملتقيات العلمية وتناولته العديد من الدراسات وملئت به أعمدة الصحف الوطنية. كما شكّل خلال مرحلة تسعينيات القرن الماضي حجر الزاوية ضمن المذكرات المطلبية لأحزاب الكتلة الديمقراطية، ليشهد آخر تطور له من خلال مطالب حركة شباب 20 فبراير في السنة الجارية، فتعددت الآراء بصدده، إذ أخذ كل واحد يدلي بدلوه في الموضوع، فاختلفت نظرة الاقتصادي عن وجهة نظر السياسي وتعددت تأويلات المثقفين وتباينت ردود فعل مكونات المجتمع، بين اتجاه يُقرّ بأننا نخطو خطوات صحيحة نجو الإصلاح واتجاه ينفي وجود أي مؤشر على الإصلاح واتجاه ثالث يُقرّ بوجود إصلاح، مع بعض التحفظ المبرَّر بعامل الزمن (إصلاح بطيء) أو بمجالات الإصلاح (إصلاح غير شامل) أو بمصدره (إصلاح من أعلى) أو بطبيعته (إصلاح مفروض) أو بكونه بقي حبيس الرغبة فيه (أي مجرد خطاب) دون تحققه واقعيا. إن موضوع الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب يطرح قضية أساسية مرتبطة بماهية الإصلاح، فقد لا يجادلنا أحد في حقنا في التعبير عن إرادتنا في القيام بإصلاحات (بغض النظر عن طبيعتها، سواء كانت سياسية، اقتصادية أو دستورية...)، كمدخل للانخراط في مسلسل الانتقال الديمقراطي، لكننا نظل مجانبين للصواب عندما نعتقد أن كل مبادرة سياسية أو دستورية، سواء تعلق الأمر بتعديل الدستور أو إلغاء قانون كان معمولا به أو إقرار قانون جديد أو إقالة وزير وتعيين وزير آخر مكانه أو تنصيب حكومة برمتها هو في حد ذاته إصلاح. لقد استنبط الفاعلون السياسيون فكرة مفادها أن كل مبادرة تتخذها الجهات الرسمية يجب إدراجها في خانة الإصلاح وفي تاريخ الإصلاحات التي شهدها النظام السياسي المغربي، ليتم استحضارها وتمجيدها في مختلف المناسبات. وبغض النظر عن تباين آراء أو مكونات المجتمع المغربي بشأن موضوع الإصلاح، فإن للباحثين رأيهم الخاص، فمع بداية ثمانينيات القرن الماضي، انصبّ اهتمام باحثي علم السياسة وفقهاء القانون الدستوري على دراسة فصول الدستور المغربي، فلم تكن جميع فصول الدستور ضمن الدستور الحالي (دستور 1996)، البالغ عددها 108، موضوع تحليل ومناقشة بالقدر الذي حظيت فيه فصول أخرى باهتمام بالغ، كالفصل ال19، المنظم لإمارة أمير المؤمنين، والفصل ال24، المتعلق بأسلوب تعيين الوزير الأول والفصل ال46، الذي يحدد -على سبيل الحصر- قائمة المجالات التي يختص البرلمان بالتشريع فيها. يفضي مضمون هذه الفصول وتأويلات الباحثين إلى القول إن مفهوم سمو الدستور، الذي يعني وجوب تطابق جميع النصوص القانونية مع نص الدستور، قد انضاف إليه مفهوم آخر هو سمو بعض فصول الدستور على فصول أخرى، فضلا على سمو المؤسسة الملكية، الذي يشكل القاعدة ضمن تراتبية هرم السلط وتراتبية القوانين والقرارات الصادرة عن هذه السلط. فالنظام السياسي المغربي يشتغل وفق ثلاث منظومات دستورية، مما يقودنا إلى الإقرار بتعايش ثلاثة دساتير: النوع الأول من هذه الدساتير يمكن وصفه بالدستور المعلن، النوع الثاني هو دستور داخل دستور، النوع الثالث، دستور خارج الدستور أو فوقه. فإذا كان الفقه الدستوري قد حسم في مضمون دستورية القوانين، الذي يشكل ضمنها سمو الدستور مبدأ جوهريا، فإن النظام السياسي المغربي لم يحسم بعدُ في هذا الموضوع، ففي المغرب، لا يمكن الحديث عن سمو الدستور، بل عن تراتبية دستورية بين ثلاثة أنواع من الدساتير: -الدستور الفوقي، الذي يكرس سمو المؤسسة الملكية، -الدستور المضمَر الذي يتم الإعلان عنه بتحليل مضمون الفصول وإخضاعه للتأويل، - الدستور المعلن، الذي يقف عند القراءة النصية. أولا: الدستور المعلن هو ذلك الدستور الذي يتم تقديمه على أساس أنه الدستور المعمول به في البلاد، ويتم الرجوع إليه في القضايا العادية التي لا تطرح إشكالات كبرى، ويتميز بالخصائص التالية: هو دستور مكتوب تتضمنه وثيقة واحدة، دستور يتميز بمبدأ النصية، أي يتم الرجوع إلى نصوصه كما هي مدونة، دون إخضاعة لسلطة التأويل، تحديده للاختصاصات والصلاحيات المخولة للأجهزة الأساسية، رئيس الدولة والبرلمان والحكومة والقضاء، مع تحديد مصدر السلط المخولة لكل جهاز، اكتفاؤة بالعموميات، مع الإحالة على القوانين التنظيمية المتضمنة للتفاصيلن تنصيصه على مجموعة من المبادئ وتضمينه لمجموعة من الحقوق والحريات، مع ضمان ممارستها، الإشارة إلى بعض المؤسسات والهيآت التي تعتبر شريكا لباقي السلط في تسيير شؤون البلاد، كالمجلس الأعلى للحسابات والمجلس الاقتصادي والاجتماعي، الإشارة إلى السلطة التأسيسية بشقيها الأصلية والفرعية. ثانيا: دستور داخل الدستور: ويمكن وصفه كذلك بالدستور «المضمر»، إذ يتم الإعلان عنه خلال فترات الأزمات السياسية، عندما تخضع فصول الدستور المعلن لسلطة التحليل الإستراتيجي لمالك السلط، المؤسسة الملكية. وفي هذا الإطار، يشكل الفصل الت19 مفتاح استكناه جوهر النظام السياسي المغربي من خلال تحديده مركز المؤسسة الملكية في البناء الدستوري، وخاصة على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي جعل من هذا الفصل نواة الدستور المغربي، واستمرت هيمنة الفصل ال19 على باقي فصول الدستور على عهد خلفه الملك محمد السادس. ويتميز هذا الفصل، رغم التنصيص عليه في صلب الدستور، بخضوعه لسلطة التأويل الملكية، نظرا إلى غنى معانيه وتعدد مضامينه، بل بإمكانه تعطيل جميع فصول الدستور، مما يجعله دائما في خدمة هيمنة المؤسسة الملكية على الحياة السياسية، فالفصل ال19 من الدستور المغربي الحالي (دستور 1996)، وهو بمثابة صمام أمان لجميع السلط الدستورية ولجميع القرارات الملكية التي وُضعت من أجل توجيه الأزمات أو التحكم فيها، وخاصة ما ارتبط منها بعلاقة الحكومة بالبرلمان. هكذا، فإن الفصل ال19 يفرض حضوره النظري من خلال تحاليل الحقوقيين وعلماء السياسة وتزكية الممارسة السياسية للمؤسسة الملكية، التي تجعل منه درعها الواقي، الذي يخول لها اتخاذ جميع المبادرات. - يتبع»-