كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. لقد سعى الوطنيون الأوائل، والعديد من الشيوعيين لاحقاً، إلى التوسط بين الزهد والعقلانية، بين التصوف والعِلم، من خلال تقسيم خيالي للعقل البشري إلى أجزاء مستقلة. فكل هجوم مباشر على الدين كان يعتبر غير مُوات. ولكنهم كانوا عندئذ، كما اليوم، يعرفون تمام المعرفة بأن العلاقة بين القوى الحقيقية، السلطة الدنيوية وليس الدين، التي تحدد شكل العالم. وكل التحالفات كان لها أن تُبنى على ضوء ذلك. ونتيجة لهذا، كان قطب الجاذبية الحقيقي ليس هو مكة، أو حتى إسطنبول العثمانية (التي عُقدت عليها آمال كثيرة على امتداد سنوات عديدة، غير أنها لم تقدم أية مساعدة جديرة بالذكر)، بل طوكيو. لقد استرعى تطور يابان مِيْجي الانتباه حتى من إسطنبول القصيّة. وقد أفعمت الآن تركيبة باخرة حربية عثمانية وصلت إلى سنغافورة عام 1890م، في طريقها إلى اليابان، حماس الأهالي المحليين. لقد استدعى اتجار الأوروبيين في العبيد استعمالَ العنصرية، ومن ثم، صار هذا لوحة حاسمة في السقالة الإيديولوجية للإمبريالية الأوروبية. ردّ الضحايا بخلق نظرة ضادة إلى العالم. وبينما كانت الباخرة «إيرتوغرولْ» راسية في سنغافورة، تساءل بعض الوطنيين المنفعلين فيما بينهم إذا لم يكن ذلك بداية حلف ياباني-تركي ضد الإمبراطوريات الأوروبية البيضاء. قوبل الانتصار الياباني على البحرية التسارية (الروسية) عام 1905م بحماس في العالم المستعمَر وأعدَّ الأرضية ل«الإعادة النهائية» في 1905 بروسيا. لقد أصبح هذا بالنسبة للكثيرين نموذجاً لآسيا منبعثة، ورأى كثير من المثقفين الوطنيين في المستعمَرات «الشمس المشرقة» (اليابان) حليفاً ممكناً. في البنغال، كما في يافا، انتشرت الأنباء عن صعود اليابان وبلغت حتى الأرياف. وقد وفرت الثقافة التقليدية للأرخبيل انعطافاً صوفياً: بدأت إشاعات تروج حول «باخرة ضخمة ستخترق السحب وعلى ظهرها جيوش يابانية ستطيح بالهولنديين». هناك أمل آخر أكثر خيالية أعربت عنه «الإمام»، وهي مجلة إسلامية تصدر في سنغافورة، ويتمثل في أن اليابان، الذي يحتاج إلى اعتناق إحدى الديانات الكونية ليتسنى له التنافس في العالم الحديث، قد يختار الإسلام. لماذا؟ لأن الإسلام وحده هو الذي يضمن المساواة بين الأعراق، بينما المسيحية، التي هي ديانة الإمبراطوريات، لن تعامِل اليابانيين أبداً كأمثال. ولهذا السبب، كما سجلت المجلة، «لن يتفاجأ القارئ... إذا قلنا إن يابانياً مسْلماً سوف يصبح زعيم كل الشعوب شرق باب المندب (المدخل إلى البحر الأحمر)». حتى عندما اتضح بأن «الهلال والنجمة» لا يستطيعان تعويض «الشمس المشرقة»، ظلت المملكة اليابانية مصدر إلهام للحركة الوطنية الآسيوية. إلا أن رياحاً أخرى بدأت بدورها في الهبوب. في 1914م، دشن الماركسيّ الهولندي هنريكْ سنيفليتْ «جمعية الجزر الهندية الديموقراطية الاجتماعية». كانت تتمثل في حفنة من الماركسيين، من ضمنهم «طانْ مالاكا وسيماؤونْ، اللذاْن سيصبحان فيما بعدُ مُؤسِّسي «الحزب الشيوعي الأندونيسي». وقبل ذلك، كانا قد انخرطا في «سريكات إسلام» للقيام ب «العمل الجماهيري». لقد وجه فوز الثورة الروسية (1917م) ضربة ضادة لكل من اليابان وحركة وطنية عشوائية. بدأ الآن أتباع طانْ مالاكا ورفاقه بالتحريض داخل صفوف «سريكات إسلام» بشكل علني في سبيل توجّهٍ وطني ثوري أوضح. وحضرت بعثة من المنظمة أشغال «مؤتمر كادحي الشرق» في باكو عام 1920م. وهنا بالذات، في حضور مئات البعثات من العالم الإسلامي، غلبت العاطفة رئيس الأممية الشيوعية آنئذ، غريغوري زينوفييف، فنادى العالم الإسلامي إلى إعلان الجهاد ضد كل الإمبراطوريات. وقد تضمن التصفيق إطلاق عيارات نارية في الهواء. في 1921م، طالبت الزمرة الشيوعية من «سريكات إسلام»، التي كانت تتضمن بعض الذين أدوا مناسك الحج إلى مكة، بمنح نوبة للثورة خلال المؤتمر السنوي. ويمكن تقييم المزاج من كون حتى أكثر الردود اعتدالا (مِن طرف آغوس سليم) أكدت مراراً وتكراراً، ولو عن خطإ، على أن النبي محمّد قد دعا إلى الاشتراكية قبل ماركس باثني عشر قرناً. وكان سليمْ قد ندد ب «الروح الطيفية للحزب الشيوعي الأندونيسي» ودافع عن «الروح الصافية لسريكات إسلام». إلا أن «الحزب الشيوعي الأندونيسي» «غير الصافي» كاد أن يعصف بأرواح «الأصفياء». ما الذي يا ترى غير هذا كان سيُنتج الشخصية اللافتة لمحمد مصباح (1876 1926-م)، أو «الحاج الأحمر»، كما صار يُطلق عليه. المحاولات التي انطلقت في مختلف أنحاء العالم لخلق منظمات سياسية تمزج بين الإسلام والشيوعية باءت بفشل ذريع. ولكن من حين لآخر، كان الجهد ينتج أفراداً يجتمع في شخصهم انصهار الإثنين، والحاج مصباح هو أحد أولئك الأفراد. كان له دور هام في النضال ضد الاستعمار وتعرض للنفي إلى إريانْ بمعية مساجين «الحزب الشيوعي الأندونيسي» في أواخر عشرينيات القرن الميلادي العشرين. بعد انقسام المنظمة، ذهب أغلب الأعضاء مع الراديكاليين. احتفظت «سريكات إسلام» بحضورها، ولكنها لم تعد تلك المنظمة الجماهيرية. وظلت كذلك إلى أن تلاشت بعد بضع سنوات. سوف يجد الأعضاء الأكثر حنيفية لأنفسهم مكاناً في المنظمات الإسلامية الحداثية، وينشق قليل منهم ليلتحق ب«نهضة العلماء»، التي تأسست سنة 1926م كرد فعل حنيفي على الإسلام الحداثي وانتقدت بشدة ممارسات العلماء التوفيقية والصوفية. من المثير للاستغراب أن الإسلام الاستوائي قد أنجب ما سيصير في وقت لاحق أكبر حزب شيوعي خارج الصين وروسيا. كَبر «الحزب الشيوعي الأندونيسي». نظم نقابات وقاد إضرابات وأقام شبكة من الإصدارات. في ذلك الوقت، كان الحزب، على غرار الأحزاب الشيوعية الأخرى، يقبل بإملاءات موسكو، ولكن في المرات النادرة التي عُرضت عليه نصائح نافعة من العاصمة السوفياتية، اختار الحزب تجاهلها. في 1927م، حذرت موسكو من انتفاضة قبل الأوان في يافا، باعتبار أن الظروف المحلية لم تكن قد نضجت بعدُ. تجاهل «الحزب الشيوعي الأندونيسي» هذا التحذير فأطلق العنان للعصيان المسلح ضد الاستعمار. لم يكن الناس مُستعدّين فتمّ عزل الحزب بكل سهولة. الشيء اللافتُ أن المنطقتين الأكثر دينامية من حيث التمرد، بانْتينْ وسُوماترا، كانتا من بين أقوى المناطق المسلمة. كان الانتقام الهولندي وحشياً على نحو مميّز. قتِل مئات الشيوعيين والمتعاطفين معهم رمياً بالرصاص، وألقي القبض على ثلاثة عشر ألفاً من الأندونيسيين، وسُجن أو طُرد ستة آلاف شيوعي. في السجن، رفض زعماء «الحزب الشيوعي الأندونيسي» رفضاً قاطعاً الإقرار بارتكابهم لأي خطإ. بل تهجموا بعنف على طانْ مالاكا، بصفته ممثلا للأممية الشيوعية، بسبب اعتراضه على الانتفاضة الثورية. وقد ظل هذا الموضوع ساخناً حتى عام 1965م. مهما يكن من أمر، لا تستطيع وضعية استعمارية أن تقمع شعباً لمدة طويلة، حيث سرعان ما ظهر في الواجهة جيل جديد، جيل العام 1945، الذي كان إمّا قد عاش أو شارك في هزائم اليابان وهولندا. كان جيلا واثقاً من نفسه، جيلا ساخراً، مُفعَماً بالأمل وجريئاً.