قصة حب غامضة ومزيفة جمعت معظم الشعوب العربية بحكامها. كابوس طويل وقمع مخيف وغسل للأفكار والأدمغة جعل العباد يحيون كأنهم نيام أو مخدرون.. حتى ظن الحكام أن مجدهم أبدي وكراسيهم لا تصلح إلا لأبنائهم ليورثوهم السلطة والجاه والنفوذ والثروة والاستبداد، وأن شعوبهم لن تستيقظ يوما لتبحث عن حريتها بإرادتها وتنحت مستقبلها بدماء شهدائها. كنت أعرف أن الحكام جشعون، قساة، عنيدون وغالبا خونة.. لكنني لم أعتقد يوما أنهم قادرون على إشعال فتيل الحرب في أوطانهم وتصويب فوهة المدافع والدبابات نحو أبناء وطنهم العراة، المسالمين، العزل. مشاهد الدمار والإبادة والدماء الممزوجة بقطرات المطر تهز كيان كل امرئ لازال قلبه ينبض رحمة وإنسانية.. نفس الصور كأنه بلد واحد وحاكم واحد وجريمة واحدة.. اليمن كما سوريا والبحرين.. كما الأردن وتونس.. كما مصر و ليبيا، ويا لقدر ليبيا.. كم بكى الحكام العرب فلسطين ولبنان وسوريا، كم اجتمعوا لينددوا بجرائم إسرائيل الوحشية في حق أطفال غزة وصبرا وشاتيلا والجولان، وأراهم اليوم أشد وحشية وهمجية وحقدا وجبروتا وهم يبيدون شعوبهم بلا رحمة ولا تردد، ويلقون الخطابات دون خجل ولا ارتباك ولا شعور بالندم. لقد فُضحت حقيقة حبهم المزيف الخائن، فبمجرد أن طالبت الشعوب بالطلاق دون رجعة، بعد أن ضاقت ذرعا بالخيانة والكذب والإذلال والتحقير، انتفض الحكام يكيلون الشتائم لمواطنيهم ويدمرون مدنهم ويقتلون معارضيهم في مظهر من أشد مظاهر «الطلاق» تمزقا وكراهية وحقدا وانتقاما. كأن الحكام لم يفهموا سر انقلاب شعوبهم عليهم، كأنهم فوجئوا بصحوة شعبية عارمة لمساكين استفاقوا من إغماء طويل وقد نفد زادهم من الصبر والحب المزيف والوعود الكاذبة والصمت المرير. كيف لحاكم، مهما كانت درجة خسته ووضاعته وجنونه، أن يفضل قتل شعبه وتدمير وطنه على ترك مقعده ومغادرة السلطة للاستمتاع بما نهبه طيلة فترة حكمه؟ كيف يتمسك بشعب يقول له: لا أريدك، اختفِ، تنحَّ، ارحل...؟ كيف يقاوم إرادة شعب يطلب منه مفتاح حريته وشرفه ومستقبله الذي احتفظ به دهرا لنفسه وأسرته وحاشيته؟ كيف يكيدون لإخوانهم بني وطنهم ويمزقونهم أشلاء على مرأى من السماء؟. إنها مأساة لم تحمل مثلها روايات شكسبير ولا مسلسلات الأتراك ولا دراما المصريين ولا أقوى الأفلام الحربية الأمريكية. مشاهد بالمباشر تهتز لها الأوصال ستبقى موشومة في الذاكرة، علها تكون درسا يعتبر منه من لا يعتبر ممن لازالوا يعتقدون بأن الشعوب تُحكم بالقوة والاستبداد والإذلال والتجويع والتخويف والتدجين.. إنه زمن ولى.. الآن علاقة الحب بين الشعوب والأنظمة أصبحت اختيارا لا إجبارا.