كتاب «صدام الأصوليات» للمفكر البريطاني المعاصر ذي الأصل الباكستاني طارق علي، هو عبارة عن رحلة تاريخية تحليلية مادية تنقلنا إلى أعماق العلاقة بين الشرق والغرب، وتتوقف عند أسباب نشأة الإمبراطوريات الحديثة واستراتيجياتها الإيديولوجية والاقتصادية. ينظر صاحبه في وجود الديانات السماوية ودورها في تعبئة الناس، وفي ظهور الطوائف والأصوليات والجهاد والحملات الصليبية، ينظر في الوهابية والأندلس والاستشراق والإمبراطوريات الغربية قبل أن يتطرق للإمبراطورية الأمريكية والثورة الشيوعية و«الحرب الباردة» والحداثة والكيان الصهيوني ونكبة الفلسطينيين و«العدوان الثلاثي» والثورة الإيرانية وحروب الخليج وأحداث 11 شتنبر 2001. مما لا جدال فيه أنّ العربية السعودية محتاجة إلى إصلاح شامل. ولكن مَن سيتولى أمر الإصلاح؟ هل هناك مِن أمير سعودي، هل مِن غورباتشوفٍ صحراوي، يتوارى في مكان ما كحاكم بالنيابة في إحدى البلدات الحجازية البعيدة، مستعداً لاستغلال الظرفية الزمنية واتخاذ إجراءات تستطيع قلب عالمه رأساً على عقب وإنهاء حكم عشيرة آل سعود؟ لا أعتقد ذلك. الإصلاحات مِن فوق سوف تكون بلا شك محتشمة وحذرة، والمطلوب ثورة شاملة. أمام الحرمان من الانفتاح العلماني في مجتمع تهيمن فيه العائلة المَلكية، وهي عشيرة مكونة من زُمَر وزُمَر في زُمَر، ويهيمن رجالُ الدين المروَّضون على يدها على جميع مظاهر الحياة اليومية، قامت عدة محاولات تمردية في ستينيات وسبعينيات القرن الميلادي العشرين. ورواية عبد الرحمن منيف «الخندق» لها نهاية مثيرة. يتم التخطيط لثورتين، إحداهما من طرف شبان غاضبين تلهمهم أفكار ديموقراطية حديثة والأخرى، بعيداً عن الأنظار، داخل القصر. كل شيء ينتهي بالدموع، مع إعلان حظر التجول والدبابات في الشوارع. يكتشف الثوار الشباب بأن الثورة الخاطئة قد نجحت. والإشارة هنا إلى اغتيال الملك فيصل في 1975م على يد حفيده الوحيد، الأمير فيصل بن مُسعد. وقبل ذلك بعشر سنوات، كان أخوه الأمير خالد بن مُسعد، الوهابي المتحمس، قد تظاهر على الملإ ضد دخول التلفاز إلى المملكة. فاقتحمت الشرطة السعودية منزله واغتالته رمياً بالرصاص. ولا زال الأمير خالد إلى اليوم يحظى بتبجيل المؤمنين المتشددين. وبعد ذلك بعشرين سنة، أقامت حكومة الطالبان تكريمها الفريد للأمير المغتال بإصدار أمر شنق كل أجهزة التلفزيون الموجودة في أفغانستان أمام العموم وتنظيم محارق لآلات التسجيل والفيديو. للأسف، لم يكن هذا احتجاجاً ضد السخافة. لكن تظل «الوهابية» هي ديانة الدولة في العربية السعودية، يتم تزويدها بدولارات البترول لتمويل التطرف في المناطق الأخرى من العالم. خلال الحرب ضد الاتحاد السوفياتي، التمست المخابرات العسكرية الباكستانية من أمير سعودي قيادة الجهاد في أفغانستان. لم يتقدم أي متطوع فأوصى الزعماء السعوديون بسليل عائلة ثرية، قريبة من العائلة المالكة. هكذا، أرسِل أسامة بن لادن إلى الحدود الباكستانية ووصل في الوقت ليسمع مستشار الرئيس كارتر في الأمن القومي زْبيغنييڤْ بْريجينْسْكي يقدم تأييده الصريح للجهاد. وأول ما قام به بصفته مقاتلا في سبيل الحرية مؤيداً للغرب هو الإغارة على مدرسة مختلطة ثم تحويلها إلى رماد واغتيال مديرها وإخراج أحشائه. المدارس الدينية في باكستان، التي تربى فيها الطالبان، كانت مموَلة من طرف السعوديين، والتأثير الوهابي فيها كان قوياً جداً. وفي عام 2000م، عندما قرر الطالبان تفجير تماثيل بوذا العتيقة، كانت هناك التماسات من جامعيْ قُمْ والأزهر العريقين للعدول عن ذلك، على أساس أن الإسلام متسامح مع العقائد الأخرى. لكن وفداً وهابياً من السعودية نصحهم بالمضي قدماً في الخطة. وقد نفذ الطالبان الخطة فعلا. وسوف يترك إصرار الوهابيين على الجهاد المتواصل، ضد كل الأعداء، المسلمين وغير المسلمين، أثراً عميقاً لدى الأطفال الذين سيستولون على كابول لاحقاً. وقد وقفت الولاياتالمتحدةالأمريكية في تلك الأيام موقفاً تعاطفياً. وبالكاد كان بوسع «الحزب الجمهوري» (الأمريكي) الذي يهتاج بالطوائف المسيحية أن يقدم النصح في هذا الشأن. كما كان كل من كلينتونْ وبْلير حريصين على إشهار مسيحيّتهما. كل هذا بعيدا عن تيارات «لاهوت التحرير» الراديكالية الصادقة، القوية في البرازيل ومناطق أخرى من أمريكا اللاتينية، التي ساعدت على تنظيم المقاومة في أوساط الفقراء دون إثقال كاهلهم بالاضطهاد الروحي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبحت الجماعات الدينية هي المهيمِنة على المعارضة الداخلية في العربية السعودية. بات هذا اللباب من الوهابيين الآن يرون بأن المملكة تعاني من الانحطاط بسبب علاقتها بالأمريكيين. وأصيب آخرون بالاكتئاب بسبب فشل الرياض في الدفاع عن الفلسطينيين. وكانت مُرابَطة الجنود الأمريكيين في البلاد بعد «حرب الخليج» مؤشراً للهجمات الإرهابية على الجنود والقواعد. والذين أمروا بتنفيذها كانوا سعوديين، إلا أن مهاجرين باكستانيين وفِلپّينيين كانوا أحياناً يُتهمون ويُعدمون من أجل إرضاء الولاياتالمتحدةالأمريكية. قواتُ التدخل السريع المبعوثة إلى أفغانستان لقطع مِجسّات الأخطبوط الوهابي قد تفلح وقد لا تفلح، ولكن الرأس يوجد في عافية وأمان، يحرس آبار النفط ويُنبت أذرعاً جديدة تحت حماية الجنود الأمريكيين و«قاعدة القوات الجوية الأمريكية» في الظهران. إن فشل واشنطن في فصل مصالحها الحيوية عن مصير المَلكية السعودية قد يؤدي إلى مزيد من الضربات المردودة. في يونيو 1999م، حذر أحدُ إخوة فهد المعارضين، وهو الأمير طلال بن عبد العزيز، من أنه إذا لم يتم التوافق على تحول جيلي، تمرَر بموجبه السلطة إلى جيل جديد، فإن صراعاً مريراً على السلطة قد يندلع ويدمر المملكة تدميراً. وقد اقترح تحديثاً يشمل منح الحقوق للنساء وتعليماً أفضل للجميع. ولكن تمّ تجاهله. خلال أوائل ستينيات القرن الميلادي العشرين، وقع طلال بن عبد العزيز تحت إلهام جمال عبد الناصر فنادى بإحداث تغييرات جذرية. نظم حركة «الأمراء الأحرار»، غير أنه خسر المعركة فذهب إلى القاهرة في منفى اختياري. يفترض المرء أن طلال يدرك كذلك بأن العولمة الحقيقية هي العولمة العربية، التي أرسى قواعدها القرآن كذلك، ولكن الأحوال قد تغيرت. ويدرك الحكام السعوديون أنهم إذا لم يفعلوا شيئاً ما، فإن الأصوليات المنافسة هي التي ستفعل بهم شيئاً ما. إما انقلاب متشدد على السلطات من طرف جماعات متعاطفة مع أسامة بن لادن أو عملية وقائية من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية، الأمر الذي قد تترتب عنه بلقنة شبه الجزيرة العربية. وأسهل خطة هي نقل نظارة الحرمين الشريفين إلى الهاشميين في الأردن، سلائل محمّد المباشرين، وإنشاء دولة جديدة في الشرق الغني بالنفط بمجموعة جديدة من الأهالي غير الوهابيين. إنه خيار خطير، خيار يمكنه أن يُفجّر حرباً «أهلية»، وليس فقط في المنطقة، حيث ستقوم دول وشركات أخرى بمساندة الفئات المختلفة لكسب الولوج إلى الآبار النفطية. الدولة المسلمة الثانية التي تأثرت على نحو خطير بالأزمة والحرب اللتين دُشنتا يوم 11 شتنبر 2001م هي باكستان. عند بداية هاته الألفية (الثالثة)، كانت باكستان دولة فاشلة. نظامها التعليمي لا يؤدي وظيفته على الوجه المطلوب، وخدماتها الصحية كانت أسوأ من أي وقت مضى، والسياسيون وزبناؤهم يدينون لأبناك الدولة ببلايين الرّوپييات، والقانون والنظام انهارا في أرجاء عديدة من البلاد. كما كان الاستثمار الأجنبي في أدنى نسبه. وفي العقد السالف، كانت الحرب الأهلية بين المجموعات المسلحة من الأصوليين السنيين والشيعيين قد أدت إلى مصرع أكثر من خمسة آلاف شخص. وكانت وضعية المرأة قد تدهورت على جميع الأصعدة: الصحة والتعليم والوضع القانوني، فضلا عن ارتفاع هائل في عدد حالات الاغتصاب المثبوتة. ترى هل كانت لأي بلد آخر، غير الولاياتالمتحدةالأمريكية، الجرأة لإخبار الأممالمتحدة بأنه يحتفظ لنفسه بحق الهجوم على مَن شاء ومتى شاء؟ «مجلس الأمن» لم يجازف بأية معارضة. كل هذا تمّ باسم محاربة العدو الذي يتمثل، حسبما أخبر به الرئيس الأمريكي الكونغرسَ، في عشرات الآلاف من الإرهابيين في ستين دولة مختلفة. كون «القاعدة» لم تعد تستطيع توجيه ضربة أخرى في نفس الحجم صار أمراً واضحاً مع استمرار الحرب. بالنسبة لهم، لا يمكن تصور هؤلاء وهم يشاهدون المدن الأفغانية تنهار تحت القصف دون أن ينتقموا في مكان ما من الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أوروبا الغربية لإظهار غضبهم أو تجريب قوتهم، عدا إذا كان ذلك فوق طاقتهم. هاته النقطة تم الإلحاح عليها بشدة في أقسام من الإعلام المكتوب الهندي والباكستاني، ولكنها لم تخطر ببال أغلب «المتخصصين في شؤون الدفاع» الذين هيمنوا على شاشات التلفزيون خلال النزاع. بعد أربعة أشهر من إعلان الحرب، كانت الغاية الرئيسة من الحرب لا تزال بعيدة المنال. لقد أفلت أسامة بن لادن من الأسر والاغتيال. وهرب زعيم نظام الطالبان المهزوم، الذي كان القبض عليه هدفاً ثانوياً، ضمن قافلة من ثلاث دراجات نارية. وكان الاهتمام الآن قد تحول وجهة باكستان.