نتابع الشأن السعودي وتطورات الأوضاع على أرض الحرمين لسببين رئيسيين، الأول: الدور المحوري الذي تلعبه المملكة العربية السعودية على الصعيدين العربي والعالمي، والثاني: تجنب معظم وسائل الإعلام العربية الخوض في هذا الشأن خوفا ورهبة أو حفاظا على مصلحة ما. ومن المفارقة أن هناك انطباعا راسخا في الغرب مفاده أن الأنظمة الملكية العربية «محصنة» في وجه الثورات والانتفاضات الشعبية التي تجتاح المنطقة العربية حاليا، ونجحت حتى الآن في إسقاط نظامي حكم في كل من تونس ومصر، وهذه الحصانة راجعة، حسب رأي هؤلاء، إلى صلابة قاعدة الحكم في هذه الملكيات والتفاف غالبية الشعب حولها. صحيح أن هذه الحصانة لم تختبر بشكل قوي في المملكة العربية السعودية حتى هذه اللحظة، وأن حراك القاع فيها ما زال بطيئا جدا ومحدود التأثير، ولكن الصحيح أيضا أن نظاما عربيا حديث الانضمام إلى نادي الملكيات (البحرين) يواجه حاليا ثورة شعبية متأججة بدأت تخرج تدريجيا عن طابعها الاحتجاجي السلمي، نظرا إلى عدم التجاوب مع مطالبها في الإصلاح السياسي. الأوضاع في مملكة البحرين أفضل كثيرا منها في جارتها السعودية، ففي الأولى برلمان منتخب، وتعددية سياسية تتمثل في تكتلات وأحزاب وجمعيات مختلفة التوجهات والمشارب، وتتمتع المرأة بالكثير من الحقوق الاجتماعية والسياسية، وتنعكس كل هذه الجوانب في صحافة تتمتع بسقف معقول من الحريات التعبيرية، ومع ذلك انفجرت الاحتجاجات الشعبية منذ أكثر من شهر ولم تتوقف حتى الآن، تطالب بدستور جديد وإطاحة حكومة يرأسها رئيس وزراء منذ أربعين عاما، ولا يتمثل فيها الشعب إلا في وزارات ثانوية هامشية، وتحقيق العدالة في الوظائف، ووقف التجنيس السياسي. في المملكة «الأم»، أي العربية السعودية، لا يوجد أساسا سقف للحريات حتى يرتفع أو ينخفض، والفساد ضرب معدلات قياسية، حتى إن الحكومة السعودية تدخلت بالأمس (يقصد الأحد) لدى الحكومة البريطانية لمنع نشر نتائج تحقيقات أجريت بشأن صفقة أسلحة اليمامة قبل ثلاثين عاما وبلغت فيها نسبة العمولات أكثر من ثلاثين في المائة ذهبت إلى جيوب أمراء كبار. الشعب السعودي، الذي يعاني من البطالة (عشرون في المائة، وضعفها في أوساط الشباب) وانهيار الخدمات الأساسية ولا يعرف الانتخابات أو أي نوع من البرلمانات المنتخبة، ممنوع عليه الاحتجاج بفتوى رسمية صادرة عن هيئة كبار العلماء برئاسة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي هو مفتي البلاد أيضا، لأن المظاهرات خروج عن الشرع ومعصية لأولي الأمر. بالأمس (يقصد الأحد) خرج الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية لأكثر من خمسة وثلاثين عاما أيضا، على شاشات التلفزة السعودية مهنئا العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز وولي عهده الأمير سلطان بن عبد العزيز «بهذا الشعب السعودي الكريم.. الشعب الوطني.. هذا الشعب الذي رفض التجاوب مع دعاوى الأشرار التي تريد أن تحول المملكة إلى مكان للفوضى والمسيرات الخالية من الأهداف السامية». كرم هذا الشعب السعودي ووفاؤه عائدان إلى «رفضه» مطالبات على «الفيس بوك» حثته على تنظيم مسيرات احتجاجية يوم الجمعة الماضي، حيث أكدت وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية الهدوء التام في شوارع المدن الرئيسية وميادينها، ولكنها لم تقل إن الحكومة دفعت بعشرات الآلاف من رجال الأمن إلى منع مثل هذه المظاهرات بالقوة إذا تطلب الأمر، مثلما حدث في مدن القطيف والهفوف الشيعية التي تحدت أمر الحظر ونزل مواطنوها إلى الشوارع. وكالات الأنباء الغربية وزعت تقارير إخبارية يوم أمس (يقصد الأحد) بتظاهر حوالي مائتي شخص أمام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين واحتجاجا على السياسات القمعية والمطالبة بإصلاحات، الأمر الذي يطرح العديد من علامات الاستفهام حول مصداقية رواية الصحافة الرسمية التي قالت إن متظاهرا واحدا تظاهر في العاصمة السعودية يوم الجمعة. نريد أن نوجه سؤالا إلى الأمير نايف: إذا كان الشعب السعودي على هذه الدرجة من الكرم والوفاء وملتفا فعلا حول الأسرة الحاكمة، ألا يستحق هذا الشعب أن يتلقى تقديرا خاصا أو مكافأة لسلوكه هذا في إحباط «مؤامرات» الأشرار في نشر «الفوضى» في البلاد وتنظيم مسيرات خالية من الأهداف السامية؟ القيادة السعودية لا تستطيع أن تنكر عدم معرفتها بمطالب الشعب السعودي، فقد تقدمت نخبهم الليبرالية والدينية بعرائض عدة تضمنت مطالبها كاملة، ابتداء من انتخاب مجلس شورى بصلاحيات رقابية وتشريعية كاملة، ومرورا بالتوزيع العادل للثروة، وانتهاء بمحاربة الفساد وتحويل البلاد إلى ملكية دستورية. هيئة كبار العلماء، التي انحازت إلى الحاكم ووظفت فتاواها لمصلحته، وبناء على طلبه بتحريم التظاهر، لم تنتقد مطلقا إقدام السلطات على اعتقال كل الذين وقفوا خلف هذه العرائض وأبقتهم خلف القضبان لسنوات دون محاكمات عادلة، وعندما جرى الإفراج عنهم تم وضعهم على اللوائح السوداء ومنعوا من السفر، وما زالوا حتى هذه اللحظة، ومن بين هؤلاء محمد سعيد طيب ومتروك الفالح وعلي الدميني وعبد الله الحامد والشيخ سعيد بن زعير والقائمة تطول. المسؤولون السعوديون يقولون في مجالسهم الخاصة إنهم لن يتجاوبوا مطلقا، ولن يقدموا على إصلاحات سياسية تحت ضغط الاحتجاجات أو التهديد بها، وهذه المكابرة نعتقد أنها ستؤدي إلى احتجاجات أكبر في المستقبل، فلا يعيب الحاكم أن يتنازل لمطالب شعبه المشروعة وبالسرعة المطلوبة، خاصة أنه يفعل ذلك لمصلحته بالأساس قبل أن يكون لمصلحة مواطنيه. فالسلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان، حل مجلس الوزراء وطرد اثنين من أقرب مستشاريه في ذروة اشتعال شرارة الاحتجاجات في مختلف أرجاء السلطنة. تخطئ القيادة السعودية إذا اعتقدت أنها محصنة من الاحتجاجات، وأنها تستطيع أن تشتري صمت الشعب السعودي على الكثير من التجاوزات والأزمات الداخلية بتخصيص 37 مليار دولار تعتبر نقطة في بحر، لأن ما يطالب به السعوديون هو ما طالب ويطالب به المصريون والتونسيون واليمنيون والبحرانيون، أي الكرامة ووقف كل أشكال إذلال المواطن وحرمانه من حقوقه. الخبراء الأمريكان قالوا إن حكم الرئيس حسني مبارك مستقر، وأكد نظراؤهم الفرنسيون أن حكم الرئيس التونسي لا يواجه أي أخطار، الآن يكررون الشيء نفسه بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية. استقرار المملكة مرهون بالإصلاحات السياسية وبأسرع وقت ممكن، وعليهم أن يتذكروا أن الانتفاضتين في مدينة سيدي بوزيدالتونسية وميدان التحرير في القاهرة بدأتا بالعشرات وتطورتا إلى مشاركة الملايين. الشعوب العربية تحررت من عقدة الخوف وثقافته، وأصبحت قوات الأمن هي التي تخاف المواطن، وليس المواطن الذي يخشى قوات الأمن مثلما كان عليه الحال في السابق، وما كان مقبولا قبل ثلاثين أو أربعين عاما لم يعد مقبولا الآن. فالصحوة عدوى حميدة، وطالما وصلت إلى مصر فإنها ستصل حتما إلى عواصم عربية أخرى اعتقدت خطأ أنها في مأمن. السد الوحيد الذي يمكن أن يقف في وجه الثورات هو الإصلاح السياسي الحقيقي، أما الفتاوى بتحريم المظاهرات أو اعتقال المدونين أو حتى منع الفيس بوك والتغول في حجب مواقع الأنترنيت، فقد تعطي نتائج عكسية تماما، ولم تزدد الثورتان التونسية والمصرية اشتعالا وتدخلا مرحلة المليونية إلا بعد إقدام الحكومتين في البلدين على اتخاذ هذه الإجراءات. هل تستوعب السلطات السعودية هذا الدرس؟ لا نعتقد ذلك، فلا توجد أي مؤشرات توحي بعكس ذلك مطلقا.