في احتفال جماهيري لتكريم شهداء الثورة المصرية بمدينة السويس، وكان قائد الجيش الثالث الميداني حاضرا، قلت إن هناك تباطؤا يوحي بالتواطؤ، وقلت إن ثقتنا عظيمة في الجيش المصري، لكن السلوك السياسي للمجلس العسكري محل انتقاد، وإنه لا معنى مريحا لحياد بين أهداف الثورة ومطامع جماعة «شرم الشيخ»، حيث يقيم مبارك وعائلته، وبتواصل مريب مع آخرين في ما يشبه الانقلاب والثورة المضادة. كانت المناسبة، صدور قرار متأخر يقضي بتجميد أموال مبارك وابنيه والزوجات، كان الحفل مساء 21 فبراير 2011، بينما كان بلاغنا للنائب العام، الذي يطالب بتجميد أموال العائلة، قد مضى عليه 12 يوما كاملة. جرى تقديم بلاغنا قبل خلع مبارك، وفي الأيام الفواصل جرت محاولات تهريب أموال مما نعلم ومما لا نعلم، وإلى «جزر آمنة» في الإمارات والسعودية بالذات. وصحيح أن التحرك بدا جادا، وجرى تقديم طلبات رسمية إلى دول أجنبية بتجميد أموال الرئيس المخلوع وعائلته، والاستطراد في محاكمات عاجلة لرجال جماعة مبارك وابنه، من جماعة البيزنس الحرام ومن جماعة الأمن الداخلي، لكن شخوصا بعينهم جرى تأجيل عقابهم والتساهل مع أدوارهم المريبة، من نوع صفوت الشريف وزكريا عزمي، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، أضف إليهما وضع اللواء عمر سليمان، الذي ظل غامضا، وحتى بعد أن جرى تأكيد حدوث محاولة لاغتياله، وهو ما قد يعني أن جناحا من النظام بقي في مأمن، وربما بحكم علاقات قديمة متجددة مع المجمع العسكري في الجيش والمخابرات، إضافة إلى رعاية خواطر مبارك نفسه، وربما بدعوى كونه واحدا من قادة القوات المسلحة فيما سبق، وعدم الشروع حتى كتابة هذه السطور في محاكمة ابنيه وزوجته سوزان، والأخيرة كانت «شجرة الضر»، بالضاد وليس بالدال، التي قادت مبارك إلى حتفه السياسي، وقادت البلد كله إلى مهالك ومزالق النهب العام. ومع كامل الاحترام للجيش المصري، فإن الدور السياسي الحاكم للمجلس العسكري ليس فوق النقد، وربما النقض، فالثورة لا تعرف الوقوف في المنتصف، وقد نشأ الدور السياسي للمجلس العسكري في ظروف صارت معلومة، فقد قضت الأقدار أن تجري الثورة الشعبية المصرية العظمى كما جرت، وبثورة هائلة بدون قيادة مطابقة، وفي لحظة الحسم بدت الكرة ذاهبة إلى ملعب المجلس العسكري الذي بدا بدوره كمنطقة عازلة، أبدى نوعا من الحيرة والارتباك في البداية وسلم بشرعية الثورة وأهدافها ووضع نفسه على حد تعبير بياناته في خدمتها، لكنه لم يذهب بحساب الأفعال بعد الأقوال إلى المدى المطلوب، وهو ما أغرى بتأويل غير مريح لتيار الحوادث المتدافعة، فقد انتهت الثورة إلى خلع رأس النظام وإلى تحطيم أجنحة رجال الأعمال والأمن الداخلي والبيروقراطية السياسية في قيادة ما كان يسمي بالحزب الحاكم، أي أن الثمار كلها سقطت في حجر الجيش وفي حجر المجلس العسكري بالذات، وثمة تساؤلات في محلها عن هوية وطبيعة بعض جنرالاته ومدى ارتباطهم بالمعنى الكلي للنظام المتداعي، وعلاقاته وتوافقاته في الإقليم وفي العالم، وفي التأويل بقية من شروح خطرة، وكأن الهدف إعادة بناء نظام مبارك بدون مبارك، وانطلاقا من وضع ممتاز للجيش المصري أفضى إليه زحام الحوادث المتلاحقة. وقد لا يكون التأويل الخطر في محله تماما، فلا يصح، في الحساب الختامي، أن تنتهي الثورة إلى انقلاب سلطة أو أن تكون النهاية تعديلا في موازين الحكم نفسه، وهو ما لا نتصور أن تقبل به الثورة الشعبية المصرية وطلائعها السياسية، فالجيش هو جيش الشعب المصري، والأمر للشعب أولا، والمجلس العسكري عنده سلطة التنفيذ بدواعي الأمر الواقع، والأهداف العاجلة ناصعة لا تقبل التأويل، فالشعب يريد إسقاط النظام، وقد بدأ بخلع الرئيس، ويريد الآن إسقاط حكومة الجنرال أحمد شفيق، فالجنرال شفيق كان، ولا يزال، صديقا مقربا من مبارك وعائلته الفاسدة، وشفيق نفسه تحوطه علامات استفهام وتساؤلات عن ثروته الشخصية ومواردها، ثم إنه أي شفيق في وضع غير شرعي تماما، فقد عينه الرئيس المخلوع وسقط قرار تعيينه مع سقوط مبارك، والتمديد لحكومة برئاسة شفيق ينطوي على إهانة لثورة الشعب المصري، ونتصور أن الإطاحة بحكومة شفيق هي الواجب الفوري للمجلس العسكري، كذا الإطاحة بقوائم محافظي الأقاليم الفاسدين الذين عينهم مبارك، وهذه النقطة بالذات هي «اختبار جدية» نوايا المجلس العسكري. الإطاحة بشفيق والمحافظين هي قطع لعنق وجذع النظام المتداعي بعد قطع الرأس، وكسر هذه الحلقة بالذات يعني توفير قوة دفع هائلة كافية لكنس النظام وتطهير البلد من الفاسدين الكبار والصغار، فأي ثورة في الدنيا تعني، بالتعريف، هدم نظام وإقامة نظام جديد، وهدم نظام مبارك يعني إزاحة مسؤوليه وتقديمهم لمحاكمات عاجلة، يعني حل حزب الرئيس المخلوع، وإعادة ممتلكاته ومقراته إلى الدولة، يعني حل المجالس المحلية المزورة، وهي حظائر فساد تتسع لما يزيد على خمسين ألف شخص من سارقي المحروسة، وهدم النظام يعني سرعة البت في محاكمة صفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور، يعني التصفية الكاملة لجهاز مباحث أمن الدولة، ويعني الطرد الفوري لقيادات اتحاد العمال الرسمي، يعني فك الحظر عن انتخابات النقابات المهنية، ويعني الإطلاق الفوري للحريات العامة، حريات تكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات وحريات إصدار الصحف وإنشاء قنوات التلفزيون وحريات التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، ويعني التنفيذ العاجل لأحكام القضاء بإقرار الحد الأدنى للأجور وإصلاح الخلل الفادح في نظام الأجور الذي يعطي بعضهم ملايين ويستبقي الملاليم للأكثرية، ثم إن منطق الهدم يعني تصفية ممارسات النظام المخلوع وتواطؤه الإجرامي مع إسرائيل في حصار الفلسطينيين وإلغاء اتفاق الكويز واتفاقية تصدير الغاز، ولا يصح لأحد أن يضحك علينا أو يستخف بعقولنا، فالإبقاء على شخص كأحمد أبو الغيط في موقع وزير الخارجية المصري مما يحرق أعصاب الناس وينطوي على إهانة بالغة لثورة الشعب المصري ويدوس على كرامتنا الوطنية الممهورة بخاتم الدم الشهيد. تصفية التركة البائسة مطلوبة على وجه العجلة، والمطلوب بذات القدر ألا تنتهي الثورة العظمى إلى متاهات أو إلى ترقيع في دستور صار مزقا من ورق، فالدنيا كلها تعرف ألف باء المراحل الانتقالية، وإجماع المصريين منعقد على فترة انتقالية كافية، تكون فيها الإدارة العليا لمجلس رئاسي من قضاة وعسكريين، وأداة التنفيذ لحكومة تكنوقراط مستقلة تماما عن أي ميل سياسي. وتبدأ بإعلان دستوري يضمن الحقوق والحريات العامة، ثم يجري إطلاق الحريات وإنهاء حالة الطوارئ وضمان استقلال القضاء وإدارته التامة لكافة أنواع الانتخابات والاستفتاءات، وتكوين جمعية تأسيسية منتخبة لإقرار دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ثم انتخابات رئاسية، وتكون انتخابات البرلمان بنظام القوائم النسبية غير المشروطة والتصويت ببطاقة الرقم القومي مع إلغاء الجداول الانتخابية سيئة السمعة، وجعل البلد كله دائرة انتخابية واحدة، وهو ما يحل المشكلات كلها بجرة قلم ويتيح للمصريين في الخارج سهولة التصويت، وكل ما سبق عناصر للسيناريو الآمن الذي تعرفه ثورات الدنيا الديمقراطية، وليس للمجلس العسكري أن يؤلف سيناريوها آخر أو أن يتباطأ في الاقتناع بما يوحي بالتواطؤ.