كانت قلوبنا ترف وجوارحنا تخفق وعيوننا تجحظ، ونحن نتابع قراءة كل الجمل التي يسبقها عنوان "خبر عاجل". عليها نستيقظ وعليها ننام وعليها نسهر، لأيام وليال طويلة، إلى أن سقط مبارك! وأعلن الخبر، فتحررنا وفارقنا شاشاتنا، بعد مخاض عسير. كم يعيد التاريخ كتابة نفسه! نفس الحدث يتكرر بشكل معكوس، فقد حوصر قصر الطاغية، كما حاصر، هو، قطاع غزة وأحكم إغلاق معبرها الوحيد على العالم بل وسيَّجَها بجدار فولاذي!.. وزهد فيه الشعب، رغم تنازلاته البئيسة، كما زهد في قوتهم، فباع الغاز بل أهداه لإسرائيل بدولار واحد يتيم.. ولم يملك إلا أن يجمع حقائبه، كما يجمعها خيرة الشباب، للبحث عن لقمة العيش في دول المهجر... ولم تفلح خطاباته المتكررة وإصلاحاته المتأخرة في تغطية ظلمه واستبداده وتبعيته العمياء للأعداء. كما كانت تنجح الأصباغ في تورية شيبه الرمادي القبيح. كان الحدث جللا وكبيرا وفوق كل ما يتصوره مَن عاصر واقعنا المنحطّ. وجعلتُ أراجع بعض المسلمات والمفاهيم التي أومن بها! كيف لا؟ وأنا الذي استقمت في الصف لأتمتم بالأدعية في صلاة جنازة على شعب مصر، إذ به ينتفض ويمزق كفنه وشهادة الوفاة والإذن بالدفن، ليهب إلى الحياة، بكل عنفوانه، ويصنع المعجزات، مزلزلا كرسيا راسخا ونظاما جائرا. وهكذا، غيرت وصوبتُ من أفكار أجترُّها دائما عند الحديث عن الأنترنت، فكنت -من باب الحرص على الشباب والخوف عليهم من التفاعل السلبي- مع ما يطرح فيها من سموم المواقع المتعفنة، أحذرهم من الانسياق وراء نزواتهم الجنسية وإضاعة طاقات ثمينة وأوقات نفيسة في تخريب القيم والأخلاق. وتأكد لي اليوم أنني كنت مبالِغا في مخاوفي، فقد كذب شباب الثورة المصرية مخططات من أرادوها عوجاء. وطمأنتْهم في ذلك الإحصائيات التي تصدر عن "غوغل" بأن الشباب يبحثون عن الجنس فقط في الشبكة العنكبوتية، وتفجرت ثورة في العالم الافتراضي على "فايسبوك" و"تويتر"، قبل أن تستعر في ميدان التحرير! اعذروني أن أتوقف على الكتابة... دقيقة صمت على روح خالد سعيد، المدون الشاب الذي فضح النظام في مدونته، فقتلته المخابرات، شر قتلة، وشوهوا جثته، تعذيبا وتنكيلا، ثم ألقوا به على الرصيف، مثل القمامة. ولكنه صار من "الخالدين السعداء" على وزن اسمه تماما، حين نال الشهادة وأوقد فتيل الثورة، بعد أن واصل دربه وائل غنيم على شبكة الأنترنت، يشحذ الهمم قبل الوقوف في الشوارع والساحات. وكم ظلمت الهواتف النقالة وحذرت من مخاطرها على المراهقين، وها هي اليوم تصور تلك المَشاهد التي كشفت عورة النظام وفضحت أزلامه الذين أرادوا أن يخصفوا على سوأته، بمنع الرسائل القصيرة وقطع المكالمات وتعطيل الفضائيات والصحافة الأخرى. ومن بين الصور التي تأملتها مطولا ذاك الرجل الذي "يصفع" على وجهه بطريقة مهينة تجعله يفقد مع كل صفعة نسبة هائلة من الكرامة والإنسانية. ثم أتخيل مآلات هذا الحدث على مستقبل حياته الجنسية. ولا أخال الأمر يفلت من حالتين، إما العجز الجنسي والانطواء وإما تصريف ذلك الكم من التحقير في تعنيف الزوجة و"تعذيبها" جنسيا... لا أنكر أنه، بفضل الفضائيات، أقمت في ساحة التحرير لمدة 18 يوما، حتى صرت أبيت مع الشباب تحت الخيام وألتفّ معهم حول النار لأدفئ أطرافي التي تجمدت من البرد، وأرفع معهم الشعارات، وشهدت لحظات خالدة هناك: عقد قران بين أحمد وعُلا: ثائر يسير في درب التغيير لتحقيق الوجود الإنساني وكرامته، وثائرة تعانق الحرية، ممسكة بيد رفيقها، مصممة على السير نحو المجد المنشود، ورفع الشباب حينها شعار "يطالب العريس.. بإسقاط الرئيس"... ذاك الذي عندما اشتاق إلى عناق زوجته، رفع لوحة مكتوبا عليها: "ارحل وخلصني، لم أرجع إلى البيت منذ أسبوعين زوجتي تنتظرني"! والآخر الذي رفع لافتة عليها: "ارحل، زوجتي على وشك أن تضع مولودا.. لا يريد أن يرى وجهك"! أكد صديق لي في الميدان ما قاله لوسائل الإعلام وائل غنيم أن الشباب كانوا مختلطين: الذكور والإناث جنبا إلى جنب، ولم تسجل أي حالة من التحرش الجنسي أو الانحطاط الخلقي! وحكى لي أنه حين عاد إلى البيت، مارس الجنس مع زوجته ثلاث مرات متتالية، دون كلل ولا تعب، وأحسا بلذة لم يعهداها من قبل وقال، مازحا: لقد رهزنا وشهقنا واستمتعنا كما لم نفعل طوال حياتنا!... أجبته: هذا انتقال بطولي من ميدان التحرير إلى سرير الحرية، حيث يجامع رجل كريم مرفوع الرأس، بعد أن أعتق روحه من الأسر والأغلال التي كانت تكبله وتقتل فيه كل معاني الإنسانية وخصائصها ومميزاتها وتكتم طموحاته وآماله وتنجلي الفحولة الفوارة بكل شبقها، متفوقة على كل العقاقير التي يصفها أطباء، مثلي، لرجال لم ينعتقوا بعدُ...