قامت التاريخانية على أنقاض التصور التقليدي للتاريخ، قامت كذلك على تفنيد التصور الوضعاني الذي يضيق مفهوم الموضوعية، فيحصرها في الوصف الخارجي للوقائع والأحداث. مشكلة التاريخ الوضعي أنه يتهيب من مرحلة التأليف، لذلك يحكم على نفسه بألا يتجاوز حدود التفكيك والتحليل، معرضا عن مرحلة التركيب أو التألفة Synthèse. يتيه الوضعانيون مع الجزئيات، فيفرغون التاريخ من روحه ويحيلونه إلى مادة بدون مضمون. يكتب المؤرخ الوضعي تقريرا وصفيا عن الأحداث، دون أبه بمغزاها في مسار التاريخ، فيأتي التاريخاني ليستدل على أن إجراء الوصف ليس إلا مرحلة لا معنى لها في غياب التألفة: «بعد وصف التاريخ كمادة، يأتي دور التضمين، أي: الإدراك، الكشف عن المغزى، تحويل البراني إلى جواني، حيث يصبح المدروس جزءا من ذات الدارس، وإلا ما كان إدراك ولا تاريخ، وإنما مجرد جمع وتصنيف للماديات». (مفهوم التاريخ، الغاية أو تاريخانية الفيلسوف، ج: 2، ص: 356). هكذا يفرغ التصور الوضعي التاريخ من مغزاه الفلسفي بدعوى موضوعية مزعومة، تتوهم إمكان الفصل المطلق بين الذات والموضوع، مع أن منحى المؤرخ ليس هو منحى العالم الطبيعي، وخصوصية المعرفة التاريخية تختلف عن خصوصية المعرفة الطبيعية والاجتماعية، لأن المؤرخ لا يمكن أن يؤرخ إلا انطلاقا من هم فلسفي. هكذا يصبح العالم التاريخي عالم الأحياء لا عالم الأموات، عكس التصور التقليدي السائد: «ليس، إذن، العالم التاريخي عالم أموات، بل عالم مثل متواجدة في ذهن المؤرخ». (العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، 1983، ص 20). وقد شكل الاستدلال على أن التاريخ مثل في ذهن المؤرخ نقلة نوعية في النظرة إلى علاقة الذات بالموضوع، لأنه موضع ذات المؤرخ في سياقها التاريخي، على اعتبار أن ذهن المؤرخ نفسه ليس إلا نتاجا تاريخيا في نهاية التحليل. لذلك فكل خطاب عن الماضي خطاب عن الحاضر، لأن وجهة نظر المؤرخ المعاصر محدِّد أساس للماضي المتمثل في ذهنه، لهذا كانت التاريخانية ضد الوضعية التي تدعي الموضوعية المطلقة، بدعوى إمكانية التوحيد بين الظواهر الطبيعية والظواهر الإنسانية، مهملة خصوصية فعالية الإنسان، في صراعه مع الزمان. وما دام التاريخ كله تاريخا معاصرا وما دام التاريخ في ذهن المؤرخ، فإن ذلك يجعل التاريخين، التقليدي والوضعي، بلا معنى، إذ يستحيل تصور تاريخ حقيقي بدون فلسفة: «رد توينبي على خصومه أن فلسفة التاريخ من صلب دراسة التاريخ، إذ لكل مؤرخ فلسفته. الواقع أن المؤرخ لا ينفصل نهائيا عن الهم الفلسفي إلا إذا قرر مسبقا التخلي عن كل نظر وتفكير. وهذا ما يفعله المحدث أو المحقق الوضعاني»، (م.التاريخ، ج 1، التاريخ بالمفهوم، ص 178). للتاريخانية تاريخ ينطلق من فلسفة التاريخ التأملية، مرورا بالمادية الجدلية، وصولا إلى فلسفة التاريخ النقدية. وعبر هذا المسار، تمكنت الفلسفة الألمانية من نقد العقل التاريخي، بنفس مستوى نقد كانت للعقل الخالص، وقد بين رمون آرون RAYMOND ARON في كتابه «الفلسفة النقدية للتاريخ» أن الفلسفة التقليدية للتاريخ حققت إنجازها في النسق الهيجلي، كما أن الفلسفة الحديثة للتاريخ بدأت برفض الهيجيلية، لأنه لم يعد الهدف المثالي تحديد دلالة المصير الإنساني بالاعتماد على الكشف، إذ لم يعد الفيلسوف يتوهم أنه مستودع أسرار العناية الإلهية. إن النقد الكانتي للعقل الخالص وضع حدا لآمال الوصول إلى حقيقة العالم المعقول، وهكذا عدلت الفلسفة النقدية للتاريخ عن طموح بلوغ المعنى النهائي للتطور التاريخي، وبذلك غدا تحليل المعرفة التاريخية بمثابة نقد كانت للميتافيزيقا. ليس هدفنا من هذا العرض الدخول في تفاصيل تطور الفكر التاريخاني بقدر ما نهدف إلى إبراز كيف تطورت التاريخانية إلى أن اتخذت شكل إيديولوجيا الإنجاز، وكيف أنها تأسست على إبراز سلبيات العقل المجرد، بعد أن استدلت الفلسفة الألمانية على أن محاولات فرض القيم الكونية بالقوة لا يمكن أن تقود إلا إلى الإرهاب، لهذا فشل اليعقوبيون في فرض مبادئ الثورة الفرنسية على الشعوب الأوربية. لقد استخلصت الفلسفة الألمانية الدرس من التاريخ، بنقدها للتجربة الفرنسية، لأنها بينت أن المبادئ التجريدية عديمة الجدوى في العمل السياسي. يستحيل ردم الهوة بين التقدم والتأخر بدون استيعاب قوانين الصيرورة التاريخية التي لا تعترف باختزال الزمان. لا يمكن تحليل أسباب التأخر بدون الاسترشاد بنظرية في التاريخ، وهذه النظرية لا توجد إلا في التاريخانية باعتبارها النظرية التي تطرح مشكل التأخر في اتجاه وحدة التاريخ الهادفة إلى تعميم القيم الكونية بالاستيعاب لا بالقوة، حيث تلغى الفروق الإثنية والدينية والثقافية، وتمَّحي جميع الأوهام التي ترى في التفاوت بين الأمم والشعوب مكونا بنيويا، لا مجرد طارئ تاريخي، لذلك فهي نظرية ليست وقفا على عرق أو دين أو ثقافة معينة، لأنها نظرية ربط المعرفة بالإنجاز، ولهذا وصفت بكونها إيديولوجيا الفعل: «بالنسبة للمجتمع، فالتاريخانية تأخذ شكل إيديولوجيا الفعل. وبدون شك، فإننا نستطيع أن نذهب إلى حد القول بأنها النظرية الوحيدة لما سماه لودفيج فون ب«علم الفعل الاجتماعي» Praxéologie، حيث علاقة النظرية التاريخية شديدة الارتباط بالمذهب الإصلاحي Réformisme»، (العروي، الإسلام والتاريخ بالفرنسية، ص 126). إن الوعي بضرورة تدارك التأخر يتطلب فلسفة الإنجاز التي يقترن فيها القول بالفعل. وقد تبلورت هذه الفلسفة عبر نقد العقل التاريخي في الثقافة الأوربية، لذلك فإن الثقافات غير الأوربية التي لم تعرف مثل هذا النقد حكم عليها بأن تبقى أسيرة التقليد، كما هو حال الثقافة العربية. هكذا يتضح أن مفهوم الحداثة ينصرف إلى تحديث نظرة المجتمع إلى التاريخ، وهذا لم يحدث في الثقافة العربية لأسباب سنرى أهمها في الفقرة التالية. 3 - موانع القطيعة والتحديث المعاق: قلنا إن نقد العقل التاريخي في الفكر الأوربي وضع حدا لمفهوم التاريخ كمطلق وحقق قطيعة مع الوعي التقليدي، فتحرر الأحياء من تحكم الأموات، وبذلك ودعت الشعوب الأوربية عقلية المطلقات. وهنا نصل إلى عمق أزمة تحديث الفكر العربي الذي عجز عن تحقيق مثل هذه القطيعة، لأسباب لم تكن حتمية كما يرى العروي. وبالفعل، فقد توقفت محاولة وضعنة التاريخ في المشرق، بفعل تداعيات الحروب الصليبية، وانهيار الدولة الفاطمية في المشرق، وسقوط الأندلس في الغرب الإسلامي. يتبع... امحمد بن الطيب بنكيران