عندما بدأ الحديث، مؤخرا، عن اعتزام عمدة طنجة الجديد، فؤاد العماري، إصدار عفو شامل عن المنعشين العقاريين الذين يخرقون القوانين، والذين يوصفون في طنجة بعبارة «وحوش العقار»، فإن سكان المدينة وضعوا أيديهم على قلوبهم، خوفا، وتساءلوا حول ما إذا كان العمدة يعرف، بالفعل، مشاكل طنجة أم إنه من نوع «آخِر من يعلم»... ولم يتأخر العمدة في نفي ما قيل وفي وصف الحديث عن عفوه بأنه بلا أساس له، غير أن البيانات التي صدرت، سواء تلك التي أصدرها العمدة نفسه، أو التي أصدرها منعشون عقاريون، أو التي أصدرها بعض نوابه، كانت تشبه الدخان، ولا دخان بلا نار. ويبدو أن بيان العمدة، الذي ينفي كل شيء، كان يدين نفسه بنفسه ويتحدث عن مساهمة المنعشين العقاريين، بقوة، في التنمية في المدينة، لكنْ عن أي تنمية يتحدث العمدة، بينما لم يبادر ولو منعش عقاري واحد إلى بناء حديقة أو قاعة رياضية أو مدرسة أو مسرح أو دار للشباب أو أي مرفق يعود بالفائدة على المدينة؟ لا شيء على الإطلاق، مع أنهم جنَوا مئات الملايير كأرباح مقابل تدميرهم الممنهَج للمدينة. يعرف سكان طنجة، أكثرَ من العمدة، أن مدينتهم عاشت وتعيش «سنوات رصاص» حقيقية، والذين يقومون ب«تعذيبها» هم «وحوش العقار»، الذين يمارسون دور الجلادين في حق واحدة من أشهر مدن العالم، التي تحولت اليوم إلى «قرية كبيرة» تعمّها الفوضى و«السيبة» شبه المطلقة... ويبدو أن عمدة طنجة قد يكون له تصور خاص للتنمية في طنجة، وهو تصور لا يختلف كثيرا عن تصور الوالي، محمد حصاد، الذي يرى أن العمارات والأسمنت هي رمز التنمية وأن المناطق الخضراء والغابات والشواطئ هي مجرد زوائد بلا قيمة وينبغي تدميرها لفائدة وحوش العقار. عمدة طنجة الجديد لديه، أيضا، مشكلة أخرى، وهي أنه موجود في المدينة منذ بضع سنوات فقط، أي أنه لم يعش تلك «الأيام الجميلة» لطنجة وربما لم يكلف نفسَه عناء الاطلاع على تاريخ طنجة الجميل. يعتقد سكان طنجة أن السنوات التي أمضاها العماري في طنجة، رغم أنها قليلة، تجعله، على الأقل، واعيا بالمشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها المدينة. وعوض أن ينشغل كثيرا بمشاكل المنعشين العقاريين، مع أنهم بلا مشاكل، لأنهم الذين تسببوا فيها، فإنه كان أَولى بالعمدة أن يقوم بجولة بين مقابر المدينة، لكي يعرف فداحة البؤس الخطير الذي تغرق فيه مدينة تُسمي نفسَها القطب الاقتصادي وقاطرة التنمية وهلم جرا من الأكاذيب.. والتي لا تستطيع حتى توفير مقابر كافية لأمواتها، وصار الأموات فيها يُدفنون فوق بعضهم البعض، في إهانة فظيعة لحرمات أموات المسلمين... بعد ذلك، كان بإمكان العمدة الجديد أن يقوم بجولة في الأحياء العشوائية المحيطة بطنجة، وهي أحياء تشكل براميل بارود حقيقية محيطة بالمدينة وما تزال فيها الخروقات الفظيعة مستمرة وما يزال أعيان السلطة والقياد يتصرفون فيها بمنطق «السيبة». يشغل بالَ سكان طنجة، أيضا، خطر آخر هو خطر التلوث، الذي أضحى يشكل كابوسا حقيقيا، لذا كانوا يرجون لو أن العمدة الجديد جشّم نفسَه يوما عناءَ زيارة مطرح النفايات، وهو وصمة عار في جبين طنجة، حيث إن رياح «الشركي» القوية تحول الروائحَ الكريهة للمطرح نحو المدينة، خصوصا عندما يتم حرق الأزبال فيتحول دخان الحرائق الكريهة إلى أنوف مئات الآلاف من السكان، إلى درجة صار معها أطفال طنجة يُحطّمون كل الأرقام القياسية في أمراض الربو والحساسية. لم تتضمن كل الاجتماعات واللقاءات التي عقدها عمدة طنجة الجديد لقاء واحدا مع آباء المراهقين والشباب من المدمنين على المخدرات الصلبة، الكوكايين والهيروين وما جاورهما، والذين يُعدّون بالآلاف، في مدينة صارت مخيفة في مجال التعاطي لهذه السموم وصار المدمنون فيها يهربون بالطناجر من فوق «البوطاغاز»، لكي يبيعونها في سوق الخردة للحصول على جرعاتهم اليومية... وفي طنجة، قلاع حقيقية لباعة المخدرات الصلبة، قلاع يعرفها الجميع، بمن فيهم مسؤولو الأمن، لكن تجار هذه السموم ينعمون بطمأنينة عز مثيلها. في طنجة أحياء كثيرة تعيش تحت جنح الظلام، وهناك أحياء جمع سكانها تبرعات من جيبهم الخاص من أجل إصلاح الإنارة العمومية، في الوقت الذي يرفض المكتب الوطني للكهرباء إصلاحها... كان الأجدر بالعمدة أن يزور هذه الأحياء ويضرب، بقوة، على أيدي هذا المكتب الذي يستفز السكان ويُغرقهم في الظلام. لم يُبْدِ عمدة طنجة الجديد، الذي بدا «رؤوفا» بمنعشين عقاريين لهم سمعة «الزفت» في المدينة، «عَطوفاً» عليهم، نفس العطف والرأفة بآلاف المرضى الذين يعانون كل أشكال المهانات في المستشفيات العمومية. فالعمدة، الذي كان أول ما قام به هو زيارة المشاريع العقارية التي لم تكتمل، لم يقم -حتى الآن- بأي زيارة لمستشفى محمد الخامس مثلا، الذي شهد عدة حالات ومحاولات انتحار، بسبب تردي الخدمات وإهانة المرضى وتعطل أجهزة السكانير وتوقف الأوكسجين وعطل المصاعد وتفشي الرشوة وتسلل الأطباء نحو العيادات الخصوصية... يعرف العمدة الجديد لطنجة، الذي ينفي عن نفسه تهمة التواطؤ مع «وحوش العقار»، جيدا، أن مصائب طنجة منبعُها العقار وأن المناطق الخضراء والملاعب والمتنزهات تم «اغتصابها» من طرف هؤلاء وأن الخروقات التي ارتكبها المنعشون العقاريون في المدينة لا يوجد لها مثيل في كل تاريخ طنجة، بل في كل تاريخ المغرب، لذلك كان عليه أن يضع مسافة بعيدة... بعيدة جدا بينه وبين هؤلاء، خصوصا أن البيان الذي أصدره لا ينفي كل شيء، بل إنه بيان «ينفي» و«يؤكد»، في الوقت نفسه، خصوصا أن الحديث راج عن كون العمدة أراد أن يدفع المنعشين العقاريين إلى المساهمة في تطوير البنيات التحتية للمدينة، ومن بينها بنيات المدارس الخاصة، وهو شيء غريب، لأن العمدة نفسَه يُسيّر مقاولة خاصة لبناء المدارس الخاصة، وهو شريك في مدارس خصوصية. من حق الطنجاويين، إذن، أن يتساءلوا: ما كل هذه الصدفة؟... وإذا كان العمدة الجديد «قلبه على المدارس»، فليقم بجولة بسيطة على تلك المدارس العمومية، التي نهبها «وحوش العقار» والتي صارت مهددة بالتحول إلى عمارات، مثل مدارس «وادي المخازن» و«ابن عاشر» و«ابن طفيل»، و»يعقوب المنصور» ومدارس غيرها كثيرة... خلال ندوة أقيمت مؤخرا لتقديم فعاليات مهرجان «مولديات طنجة»، في نسخته الثانية، حضر العماري وألقى كلمة، في بضع دقائق، كرر فيها 6 مرات عبارة تفيد أنه هو عمدة طنجة. ويبدو أن لدى الرجل شكا أو عدم تصديق لوصوله إلى عمودية المدينة. لكنْ عليه أن يتأكد أنه هو اليوم عمدة لطنجة، أحب من أحب وكره من كره، يجب ألا يساوره شك في ذلك، وعندما يستيقظ كل صباح لا ينبغي له أن يبذل مجهودا كبيرا لكي يستوعب أنه فعلا في هذا المنصب، فالمجهود الوحيد الذي يجب أن يبذله هو أن يكون عمدة حقيقيا وأن يقف شوكة في حلق «وحوش العقار» والمفسدين والمتواطئين، فالسمعة التي اكتسبها هؤلاء بين السكان لا فرق بينها وبين «الزّفْت»، وعلى العمدة أن يختار.. فلا منطقة وسطى بين الجنة والنار...