من يتذكر التحليل أو الوصف القديم لعلاقة الكيان الصهيوني بأمريكا والغرب لا بدّ له من أن يستعيد موضوعة «القاعدة المتقدّمة للإمبريالية» أو «الوكيل المعتمد من جانب أمريكا» وما شابه من أوصاف تضع أمريكا والغرب في موقع الأصل وصاحب القرار والمقرّر وتضع الكيان الصهيوني في موقع التابع والمنفذ. ولم يكن هذا الوصف بلا أساس، بل كان صحيحا وإن لم يعد كذلك الآن. ولا تبتعد هذه الرؤية عن مقولة أنور السادات ومفادها أن 99 في المائة من أوراق اللعبة (يقصد التسوية) بيد أمريكا، فما تقرّره أمريكا يخضع له الكيان الصهيوني. وقد تعززت هذه الرؤية من خلال مجموعة من الحقائق والوقائع كما عبر الدراسة التاريخية لنشأة الكيان الصهيوني ومراحل تطورّه، ثم اعتماده الوجودي والحياتي والأمني على ما يتلقاه من دعم ومساعدات، سياسيا وماليا واقتصاديا وعسكريا وإعلاميا، من قِبَل أمريكا وأوربا. وبكلمة، كانت المقولات التي تصفه بالتابع والمنفذ أو بالامتداد للمجموعة الوظيفية تقدّم نفسها، بحق، باعتبارها بدهية لا تناقش. ولكن كيف يمكن أن تفهم، في العقدين الأخيرين، السياسات الأمريكية في التماهي مع سياسات الحكومات الصهيونية، وعلى وجه التحديد في عهدي كل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش، ثم كيف تُفسّر انكسارات أوباما وإدارته أمام نتنياهو وحكومته؟ هذا فضلا عن تماهيه أصلا مع الموقف الصهيوني حول أصل الحق في فلسطين. لا شك في أن العقدين الأخيرين أخذا يهزان تلك المقولات السابقة، ويتطلبان تحليلا جديدا وقراءة جديدة لعلاقة الكيان الصهيوني بأمريكا خصوصا، والغرب عموما. من هنا، لا بد من أن يلحظ ما حدث من تطوّر في قوّة اللوبي اليهودي الأمريكي في معادلة مراكز القوى واتخاذ القرار في مؤسسة الدولة الأمريكية نفسها. صحيح أن تأثير اللوبي الصهيوني الأمريكي أخذ يتعاظم في التأثير في الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس منذ ستينيات القرن الماضي. فيهود أمريكا عانوا من التمييز ضدهم حتى بدايات القرن العشرين، ولكنهم بدؤوا في التحوّل إلى لوبي داخلي قوي بعد أن نقلت المنظمة الصهيونية العالمية مركزها من لندن إلى واشنطن، وعلى وجه التحديد بعد مؤتمر «بالتيمور» 1943، ولاسيما بعد أن أخذت أمريكا تحلّ مكان كل من بريطانيا وفرنسا في الهيمنة على البلاد العربية والإسلامية، في المنتصف الثاني من القرن العشرين. لقد تعاظم ميْل المؤسسة الأمريكية إلى التعاون مع المنظمات الصهيونية، خصوصا في مرحلة الحرب الباردة، الأمر الذي أفسح المجال لتعاظم تدريجي لقوّة اللوبي اليهودي الأمريكي حتى وصل إلى مستوى خطير من النفوذ بداية على الكونغرس ثم على المرشح للرئاسة، كما في عالمَيْ المال والإعلام، وأخيرا وليس آخرا التغلغل في الدوائر الحكومية، ولاسيما الخارجية الأمريكية. لقد وصلت سيطرة اللوبي اليهودي الأمريكي على أعضاء الكونغرس شأوا بعيدا حتى وصف باتريك بوكانن بكونه أصبح «مستعمرة إسرائيلية». ووصل الأمر في عهد المحافظين الجدد داخل إدارة جورج دبليو يوش إلى أن أصبح أعضاء في اللوبي اليهودي الأمريكي من ذوي الميول الليكودية ومؤيدين لهم أعضاء متنفذين في اتخاذ القرار الاستراتيجي والسياسي الأمريكي، تحت مظلة الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رونالد رمسفيلد (وهؤلاء من أتباع ما يسمّى ب»المسيحية الصهيونية»). وهذا يفسّر الاستراتيجية الأمريكية في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين حين جعلت أولويتها دعم شارون ومحاصرة ياسر عرفات حتى قتله، ثم العدوان على العراق، وجعلت الأولويات التي قادت احتلاله تذهب إلى حل الجيش والدولة وإعادة تركيبه على أسس طائفية وإثنية، وكان ذلك ضمن الهدف الصهيوني في إعادة بناء شرق أوسط جديد على أسس تجزيئية فسيفسائية تسمح بالهيمنة عليه من قِبَل الدولة العبرية وأمريكا المُقادة من استراتيجية صهيونية داخلها. باختصار، إن المجموعة اليهودية الصهيونية الأمريكية تحوّلت من لوبي ضاغط إلى طرف شريك وفاعل وقيادي داخل مراكز القرار والقوّة في المؤسسة الأمريكية. ولعل المكان الوحيد الذي لم يتم اختراقه، كما حدث في مراكز القرار والقوّة الأخرى، كان هو مؤسسة الجيش، عدا قيادة سلاح الطيران حيث تثور شبهات كثيرة حول علاقتها باللوبي الصهيوني الأمريكي. هذا يعني أن المعادلة لم تعد أمريكا-الكيان الصهيوني، وإنما أمريكا واليهودية الصهيونية داخلها. فقوّة نتنياهو، مثلا، في مواجهة إدارة أوباما حول تجميد الاستيطان لا تأتي من قوّة الكيان الصهيوني ونفوذه في أمريكا، وإنما من قوّة اللوبي الصهيوني الأمريكي ونفوذه وقوّته داخل مراكز القوى في الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها. إن الكيان الصهيوني في حد ذاته شديد الهشاشة من ناحية اعتماده شبه الكلي على الدعم الأمريكي-الأوربي في كل الحالات، مما يفترض انطباق نظرية «القاعدة الأمامية للإمبريالية».. ولكن المعادلة الداخلية الأمريكية-الصهيونية هي التي تلغي هذه الهشاشة ما لم يوضع حد داخل أمريكا لنفوذ اللوبي الصهيوني. إن تعاظم نفوذ التيار الأمريكي اليهودي الصهيوني والمسيحي الصهيوني سيلعب دورا كبيرا في مسيرة الانهيار التدرّجي للهيمنة الأمريكية العالمية، وذلك حين يلعب في الأولويات الاستراتيجية ويجعلها في خدمة المشروع الصهيوني كما فعل المحافظون الجدد. فخلال العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، تُركت روسيا بوتين لتستعيد قوّة دولتها ومكانتها العالمية بعد أن كانت سائرة إلى الانهيار والاضمحلال في عهد الرئيس الروسي يالتسين.