غياب حركية ثقافية حقيقية بتاونات له أسباب عديدة برأي الفاعلين، فالكاتب محمد الجاي يرى أن «ذلك راجع إلى بساطة ما تتم برمجته في المنطقة، وكلما حضر اسم بارز ومهم من مدينة أخرى حضرت قاعدة مهمة من الناس للاستماع إليه، إلا أن المنطق السائد هنا فرض أن تكون الثقافة شيئا غير طبيعي، فالثقافة تعادل كثرة الفهامة، وإذا أردت أن يخاصمك الناس ويعتبروك إنسانا غريبا، تحدث لهم عن الثقافة» تاونات مدينة جبلية عرفت بتعبيرات ثقافية عديدة كالهيت المعروف بقبائل الحياينة، والعيطة الجبلية والطقطوقة الجبلية بالإضافة إلى فن الفروسية. منطقة أعطت أسماء في القصة والمسرح والتشكيل، وعاشت زمنا ثقافيا بهيا في الماضي حين كانت تشتغل بها جمعيات مسرحية عديدة وناد سينمائي، فيما كانت فضاءات داخلية ثانوية الوحدة وحجراتها تعرف أنشطة ثقافية وندوات تشرف عليها هيئة التدريس والكثير من الفاعلين، إلا أن كل هذا الآن أصبح من الماضي، حيث أصبح «تفراق اللغا» في المقاهي الشيء الذي يعزي الغالبية. لقد ذبلت الكثير من الأسماء التي جعلت الثقافة مزهرة بتاونات في ما مضى، بل جعلت الثقافة مدخلا لاخضرار حقول أخرى خاصة العمل السياسي والنضال التلاميذي بثانوية الوحدة، والنضال الطلابي بجامعة محمد بن عبد الله بفاس. انتهت الآن ليالي دار الشباب حيث كان جمهور واسع يأتي «للاستماع إلى القراءات القصصية لمحمد المخلخل، وأشعار محمد خرقوق وندوات المسرح التي سمحت لجيل تلك المرحلة أن يتساءل عن الفرق بين البرشيئية ومسرح عبد الكريم برشيد، كما انتهى حماس النقاش الليلي الذي كان يؤطره الأستاذ العبدلاوي والأستاذ الحداد حول القضايا الفكرية والفلسفية الحارقة، كما لا يمكنك أن تفرح، ومنذ ذلك الزمن، مرة أخرى بجلسة ثقافية حول فلسفة العلوم وتطور الفيزياء مع روادها الكبار. انتهى كل هذا الآن بتاونات استجابة لأقدار إنسانية أرادت أن تكون تاونات بدون أي أثر للثقافة، وأهم دليل على ذلك شهادات ناس البلاد والمعنيين بالشأن الثقافي، بالإضافة إلى ما يمكن معاينته من غياب للبنيات ولأشياء عديدة لا يمكن للثقافة أن تحيى بدونها. القراءة من هموم الماضي «مكتبة العسكري» من المكونات الثقافية البارزة بتاونات، فهي الفضاء الذي تعود فيه غالبية أبناء تاونات على تصفح الجرائد والإطلاع على جديد الكتب، خاصة أن امتلاكها من طرف رجل تعليم في البداية وتحمل الإشراف عليها من طرف أبنائه الجامعيين، قد جعل من خدمة الثقافة الهم الأول قبل الهم التجاري، لهذا كانت كل صيغ التعامل معمولا بها، بما في ذلك الأداء المؤجل والمجزأ. لقد كان الازدحام هو ما يميز فضاء المكتبة، وحتى من لم يكن بإمكانه اقتناء الكتب كان يستطيع التفرج عليها معروضة على الرفوف، حيث تتجاور كتابات كاتب ياسين والطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي ونجيب محفوظ وأسماء أخرى عديدة. فمن هذه المكتبة اقتنت الأسماء المرتبطة بالثقافة أغلب مشترياتها، بما فيها المنشورات التي صودرت ابتداء من 1984، أما الآن فلا شيء من هذا يميز المكان ويميز من يقصدونه، لأن أشياء عديدة تغيرت، وإلى هذا يشير صاحب المكتبة عباد العسري الذي يقول: «الآن ليس هناك من يهتم بالثقافة هنا، والخطير أن الشريحة المفترض فيها القراءة والاهتمام بالثقافة، كرجال التعليم، لا تقوم بذلك. التلاميذ بدورهم لا يقرؤون لأن مستواهم لا يسمح لهم بفهم نص بسيط فبالأحرى قراءة كتاب وفهمه، ولا وجود لأي شيء في محيطنا هنا يشجع على القراءة وعلى الاهتمام بالثقافة. فالوضع الحالي للمكتبة والتعامل مع الكتاب لم نسجله طيلة اشتغالنا في هذا المجال منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد بدأ انهيار الاهتمام بالثقافة منذ أواسط التسعينيات، ويكفي أن نسبة النجاح في امتحانات الباكالوريا في تخصص الأدب كانت 47 تلميذا من حوالي 409 لتعرف المستوى الثقافي الذي وصلت إليه أجيالنا. نعيش الآن واقع انتكاس الثقافة بامتياز بتاونات وبكل الوطن، وأن يأتي إليك رجل تعليم ويطلب منك أن تستنسخ له شبكة الكلمات المتقاطعة مسألة جارحة. فأن تختار مهنة كتبي بتاونات يعني أن تفرط في قوت يومك، فلولا حبنا للمجال لفكرنا في مشروع تجاري آخر مربح، فالوضع كارثي، ولولا الأنشطة الموازية التي نقوم بها داخل فضاء المكتبة كالتصوير والنسخ وبعض الخدمات الأخرى لكان وضعنا أسوأ». إن ما يخلص إليه عباد العمري من تراجع الاهتمام بالثقافة بتاونات مرتبط بالوضع الثقافي وطنيا، إلا أن العديد من العوامل المحلية قد جعلت الوضع بالمنطقة شبه كارثي، لأنه بإمكانك إعطاء مجموعة من الكتب لفئة من العاملين في أي قطاع لقراءتها مجانا، لكنك حين تعود لجمعها بعد مدة لن تجد من بين هذه الفئة من قرأ فصلا كاملا من الكتاب، فبالأحرى قراءة كل الكتاب». القراءة والاهتمام بالثقافة من هموم الماضي، حسب العديد ممن تحدثنا إليهم لأن الكثير من العوامل تضافرت لتعدم هذا الاهتمام في أعماق الناس حتى وإن توفرت الكتب بالمجان، وهذا ما تؤكده نسبة زوار خزانة تاونات للقراءة العمومية. خريف العمل الجمعوي تراجع العمل الجمعوي كثيرا بتاونات وذلك لأسباب منها غياب الدعم وغياب فضاءات مشجعة على العمل الثقافي. فكل ما يوجد بتاونات هو بناية دار الشباب التي تآكلت جدرانها، حيث تبدو شاحبة أكثر من شحوب الثقافة بالمنطقة. عدد الجمعيات بها لا يزيد عن العشرة وأنشطتها متقطعة ونادرة كجمعية تاونات العتيقة، وجمعية الصفاء للصم والبكم، وجمعية الوجه الجديد للفن المسرحي، ونادي الطفل، وجمعية الطلائع... ووضع الجمعيات والمؤسسة ككل من وضع المجال الثقافي بتاونات الذين يقول عنه أنور الوردي –موظف ملحق بدار الشباب- إنه وضع ناقص جدا مقارنة بالمدن الأخرى لغياب فضاءات تلبي رغبات الناس، وهكذا يعاني كل مهتم بالمجال من غياب الأنشطة. فالحديث عن الثقافة بتاونات حديث عن العدم، فالناس لم تعد لهم رغبة في الثقافة، والتحفيزات المشجعة على العمل غائبة، والمجلس البلدي لا يقوم بأي دور كما المجلس الإقليمي، والجهات الرسمية مرتاحة لهذا ولا تحرك ساكنا، إلا أن الذي عليه أن يتحرك هو الجمعيات والمجتمع المدني لأن عليها الضغط على المسؤولين لإلزامهم بدعم العمل الثقافي بتاونات وتوفير احتياجات المجال». غياب حركية ثقافية حقيقية بتاونات له أسباب عديدة برأي الفاعلين، فالكاتب محمد الجاي يرى أن «ذلك راجع إلى بساطة ما تتم برمجته في المنطقة، وكلما حضر اسم بارز ومهم من مدينة أخرى حضرت قاعدة مهمة من الناس للاستماع إليه، إلا أن المنطق السائد هنا فرض أن تكون الثقافة شيئا غير طبيعي، فالثقافة تعادل كثرة الفهامة، وإذا أردت أن يخاصمك الناس ويعتبروك إنسانا غريبا، تحدث لهم عن الثقافة. أنا شخصيا كلما قرأت كتابا صرت أكثر تهميشا، وكلما أصبحت أقل معرفة بما هو سائد ومتداول بين الناس، وإذا تشبثت بحقك في قراءة كتاب بالمقهى ستكون الوحيد من يفعل ذلك بكل المدينة. إنه وضع شاذ بشكل لا يطاق، وأظن أن الحل لهذا الأمر ممكن لأن جمهور الثقافة يوجد بالمؤسسات التعليمية، ولو تم تحريك هذا القطاع لانعكس ذلك على كل فئات المجتمع». محمد الجاي أحد المسؤولين عن قافلة المعرفة التي تشرف عليها نيابة التعليم بتاونات، حيث تتجول بخزانة كتب في المؤسسات التعليمية منذ أكثر من موسم، وبآليات للعرض السينمائي لم يتم استثمارها بشكل جيد لغياب مهتمين بالمجال، ولغياب تصور فاعل لكيفية استثمار هذه القافلة لاستنبات الاهتمام بالثقافة في مجال تحركها. وغياب التصورات هو ما يحكم المجال ككل، وهذا ما يتم تعويضه بسلوكات ومبادرات وأفكار معطوبة يحصرها التشكيلي حميد مرقد في شهادة كالآتي: «تهميش الطاقات الحقيقية والفاعلة في المنطقة، والدفع بالمتطفلين والمتسلطين إلى الواجهة، وتضخيم التصرفات المشينة والسلبية التي تساهم في الهدم عوض البناء، وما يزكي سلبية الوضع أكثر هو حرمان تاونات من المندوبية الثقافية، وتوريث الفراغ في المنطقة بإشراف أطراف عديدة، وهذا ما يؤدي إلى موت أي حس ثقافي، وإساءة تسيير بعض المسؤولين إلى الثقافة والإطارات والفعاليات المرتبطة بها، كما كان الأمر مع بعض المسؤولين في مندوبية الشبيبة والرياضة الذين لم يكونوا في المستوى وعدم انشغال المجالس البلدية والجماعية بدعم العمل الثقافي بتاونات، ومنح إدارة بعض المهرجانات بالمنطقة لمن ليست لهم أية علاقة بالمجال». لقد غابت الثقافة وحيويتها عن تاونات، وغاب حماس الفاعلين والمهتمين بالمجال، لهذا صار طبيعيا أن يركن الكتبي ما يصله من كتب بعيدا عن الواجهة، ويتضخم تفراق اللغا، وتعوض النقاشات واللقاءات الثقافية التي سادت في الماضي باستنساخ الكلمات المسهمة وملئها في الزمن الحالي، وينتظر المهتم الأيام الطوال ليسمع عن برمجة ثقافية ما، وحين يحصل كل هذا نكون في عمق الصحراء الثقافية، وهذا هو حال تاونات. الذهاب إلى الخزانة لا يعني قراءة الكتب من البنيات التي اعتبرت ذات أهمية لخدمة الثقافة والاهتمام بها بتاونات الخزانة العمومية التي افتتحت أبوابها في 1984.03.02، حيث وجد فيها الجيل السابق رافدا للاغتناء الثقافي والنهل من مصادر المعرفة، خاصة أن المكتبة توفر إمكانيات المطالعة داخلها وإعارة الكتب خارجها، سواء باعتماد بطاقة الانخراط أو البطاقة الوطنية، إلا أن إشعاع هذه المكتبة سيخبو تدريجيا، حيث ستتغير طباع زبنائها تدريجيا، فبعد أن كانوا يقصدونها للاستفادة وإشباع نهمهم الثقافي، أصبح ذهابهم إليها بغاية الهروب من أشغال البيت بالنسبة إلى الفتيات أو بحثا عن ملجأ للاختفاء عن أعين الفضوليين. كما أن إهمال البناية من طرف الجهة الوصية وشركائها ساهم في تراجع دورها، فسقف البناية اهترأ كثيرا، وكل أعمال الصيانة موكولة إلى العاملين في المكتبة، حيث عليهم إصلاح أعطاب الكهرباء ودورات المياه وتكسر الزجاج من مالهم الخاص، بل وأكثر من هذا، فقد قام أحد السكان المجاورين للمكتبة ببناء سور يغطي نوافذ إحدى واجهات المكتبة، بل عمد على إحداث أشياء بجانبها تؤثر على الجو الصحي بالداخل، ولا من تدخل لفعل ما يلزم، لأن المكتبة منذورة للفناء حسب الجهات المعنية، ووحده القيم عليها من عليه أن يتحمل مسؤولية توفير الأجواء حسب إمكانياته الخاصة. زوار المكتبة يتناقصون سنويا ولا يزورها إلا مجموعة من التلاميذ خاصة وقت الامتحانات، أما خارج فئة التلاميذ فلا أحد هناك غير رجل تعليم وحيد يأتي لملاقاة بعض الطلبة لأنه مازال يتابع تعليمه الجامعي. الكتب، حسب الموظف، لا بأس بها أما النقص فيسجل على مستوى المجلات، حيث لا تتوفر الخزانة إلا على نسخ قديمة من بعض المجلات، إلا أن المشكل هو أن غالبية الزوار يأتون لقراءة ما هو مقرر، لهذا نجد كتبا عديدة لا يقرؤها أحد على الرغم من قيمتها. وما تعيشه المكتبة، حسب الموظف، هو جزء من الوضع الثقافي بتاونات الذي يعرف مواتا حقيقيا، حيث انحبس أكثر منذ عهد آخر مندوب للثقافة بتاونات لأننا نرى أن المجهود الصفر الذي قام به هو الذي كان وراء جعل تاونات تابعة ثقافيا لتازة». انحطاط الوضع الثقافي بتاونات هو ما تؤكده أسماء، موظفة بنفس المؤسسة، وذلك راجع برأيها إلى «عدم توفير بنيات وأنشطة وحركية تربط الناس بالثقافة. فكل من له غيرة على تاونات يأسف لحال الثقافة بها». إنه نفس رأي التلميذة اسوقي عواطف التي تقول: «إنه من العيب ألا نجد أنشطة ثقافية لا في مؤسساتنا التي ندرس فيها ولا في دار الشباب ولا في قاعة السينما التي أغلقت أبوابها لسنوات ولا في أي مكان آخر. يقال لنا إن ثانوية الوحدة كانت تعرف مجموعة من الأنشطة، إلا أن ذلك الزمن انتهى، وهكذا ضاع حقنا في الاستفادة الثقافية، ولا أعرف كيف سأكون مفيدة حين أنتقل إلى مدينة أخرى لأن تاونات لم تعلمني أي جديد على المستوى الثقافي».