لم يعد أحد يصدق مدينة العرائش، ليس لأنها تكذب، بل لأنها صدقت المخادعين الذين تناوبوا عليها في اغتصاب جماعي في محطات كثيرة، ثم رموها على الطريق بوجه محفور ووسخ. بدءا من بعض أبنائها و«الجرافين» الجدد من تجار المؤنث السالم، إلى تجار الإسمنت والآجر، كلهم مسحوا ومسخوا ملامحها، فبدت أبشع مما كانت عليه من قبل. كانت صغيرة وجميلة.. هكذا يقول عنها أهلها، يا حسرة، إنه بكاء على الأطلال. هذه المدينة التي يمتد تاريخها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، والتي قال عنها الملك الإسباني كارلوس الخامس إنها تساوي إفريقيا بكاملها، ووصفها البكري (المؤرخ الأندلسي ق11) قائلا إنها «مدينة عظيمة قاومت مطامع الغزاة بشرف وعزة نفس»، هذه المدينة هي الآن في غرفة الإنعاش العقاري، حيث يحقنونها بجرعات كبيرة من القبح والبشاعة، وكل حقنة ترصد لها الملايير من المال العام. حرَموا عليها الذهاب إلى السينما، ولما أصرَّت على ذلك حطَّموها على رأسها وأجبروها على ارتداء برقع من حجر لا يوجد حتى في قندهار. ثلاث دور سينما، هي إسبانيا وكوليسيو وإيديال، ومساحات خضراء ومرافق عمومية، كلها تحولت إلى عمارات يابسة الأضلع. حجر على حجر، ولائحة الصمت المتواطئ. حتى السينما اليتيمة المتبقية، أفينيدا، والتي استضافت في ندوات ومهرجانات عديدة رموزا في السياسة والمسرح والسينما، هي الآن معروضة للبيع لتصبح بدورها في خبر كان وأخواتها.. في الرضاعة. وفي سياق هذا السباق المحموم نحو تحطيم الرقم القياسي لترسيخ فن البشاعة، يكفي زائر العرائش أن يزور ساحة التحرير وسط المدينة ليكتشف القبح ويقف أمام نافورة ليس لها مثيل ولا شبيه في كل مدن العالم. نافورة منبطحة ومتساوية تماما مع الأرض. وحين يطلع منها الماء يخيل إليك أن أنبوبا من أنابيب المياه تفجر.. يا سلام على روح الابتكار. كانت هذه النافورة، أو «الخاصة» كما يسميها بذلك أهل الشمال، قبل أن تمسك برقبتها الأيادي القاحلة، رائعة الجمال.. تنبع منها المياه من رؤوس أسود من البرونز ومحاطة ب12 شجرة نخيل غرست وفق تقويم زمني في غاية الدقة والإبداع.. لكن السلالات التي ألفت تمرير الصفقات تحت الطاولة (سلالات حلفنا قسما) نظرتها مصابة بالحول ولا تميز بين الفن و(العفن). هذه هي العرائش. وردة مقطوفة من التكوين، تطل من شرفة الأطلنتيك، وتلعن «أبو التأهيل» حين تتسلمه الأيادي السائبة بحثا عن المال السائب. هذه هي العرائش التي زارها «غيفارا» وقال عنها شيخ المنفيين عبد الرحمان اليوسفي، لحظة عودته إلى المغرب وذات استحقاق في مهرجان خطابي بسينما المرحومة «إيديال» وبالحرف الواحد، «من يعتقد أن وردة العرائش سهلة للقطف فإن أشواكها ستدميه». وهذه هي العرائش أيضا، التي سقطت في غرام مبهم مع الوزير الأول عباس الفاسي. فمنذ 1976 وعباس متيم هائم بعشق المدينة، يترشح باسمها، وهو إلى يومنا هذا برلماني ينوب عنها، ولا أحد يدري كيف سقط في حبائل هذا الغرام، هل من القلب إلى القلب أم من القلب إلى المعدة؟ إنها فعلا قصة حب غامضة ومعقدة تتداخل فيها عناصر تشويق عديدة، لا أعتقد أن بمقدور خبراء أغوار النفس فك مغالقها. لهذه الأسباب لم يعد أحد يصدق مدينة العرائش. إنها تبني على قبائل الصفيح أسوارا من الإسمنت وتستدعي أبناءها ليرسموا عليه جداريات باسم حي (كذا)، ثم تدعي أنها مدينة بدون صفيح. هي لا تكذب، لكن مسؤوليها يكذبون ويفعلون ذلك نكاية بها.. إنهم ويحرضون أبناءها على ارتكاب مثل هذه الخدع البصرية بقليل من الجير وعلب صباغة كي يستمر المخادعون فوق المقاعد الدائرة حول نفسها، يخدعون الناس ويكدسون أموالا طائلة. حتى «حديقة الأسود» الموجودة في وسط المدينة، الضاربة في أعماق التاريخ والتي توجد بها أشجار نادرة مثل شجرة «اليوكا»، أصبحت هي الأخرى خربة بالية ومطرح أزبال، ولم يعد الزوار يأخذون صورا تذكارية مع أسَديْها المستريحين على صفحتين من مرمر عند المدخل الرئيسي للحديقة.