أصبحت كلمة «كلانديستينو» بإيطاليا لصيقة، بشكل غير عادي، بالمهاجر غير الشرعي وبكل ما هو أجنبي، فإذا كنت مغربيا أو جزائريا أو سنغاليا أو برازيليا أو أي شخص له بشرة مختلفة وإثنية لا تشبه في شيء إثنيات الغربيين، والأوربيين بشكل خاص، فقد تكون «كلانديستينو» (مهاجر سري)، لهذا فأنت معرض بنسبة كبيرة لأن يستوقفك رجال الأمن الإيطاليون ومعهم حتى عناصر من الجيش للتحقق من هويتك ومن كونك مهاجرا شرعيا أو غير ذلك. فإذا تم التأكد من كونك مهاجرا تقيم بشكل غير قانوني بإيطاليا وفي وضع مشبوه، فإن مصيرك، بموجب قانون توركو نابوليتانو لسنة 1998، سيكون هو الترحيل إلى أحد مراكز تجميع المهاجرين المنتشرة بإيطاليا، لتظل فيها مدة شهرين حتى يتم التعرف على هويتك وجنسيتك قبل أن ترحل إلى بلدك الأصلي. وجدت مسؤولة الإعلام التابعة لوزارة الداخلية، دوناتيلا دجونتي، تنتظرني بمركز تجميع المهاجرين برونوليسكي بتورينو قبل الموعد الذي كان محددا في الساعة الحادية عشرة صباحا، كانت شغوفة جدا بالتعرف على أول صحفي يمثل وسيلة إعلامية أجنبية يلج إلى مثل هذه المراكز بإيطاليا، وكانت بالتالي تنتظر هي الأخرى مدير المركز الذي كان لازال لم يحظر بعد. من خلال الحركية التي كان يحدثها رجال الشرطة التابعون لوزارة الداخلية وعناصر الكاربينيري التابعون لوزارة الدفاع، حدست أنهم تلقوا تعليمات للقيام بترتيبات أمنية خاصة تحسبا لأي طارئ ولأي أحداث شغب بالمركز، خصوصا وأن الزائر يمثل وسيلة إعلام مغربية وأن المعتقلين بالداخل غالبيتهم مغاربة. إحساسي بأن الكل كان مستعدا لزيارتي لامسته عند البوابة الحديدية للمركز حين فتحها لي شرطي المراقبة هناك ودون تردد بمجرد ذكر اسم «دجونتي» (مسؤولة الاتصال والإعلام التابعة لوزارة الداخلية الإيطالية). قبل أن أدخل في حديث مع دوناتيلا دجونتي عن تفاصيل تتعلق بالقوانين الجديدة التي تنوي وزارة الداخلية الإيطالية اعتمادها لمزيد من التضييق على المهاجرين غير الشرعيين، خرج إلينا مدير المركز. وقال موجها الخطاب إلي: «السلام عليكم..»، وكأنه يريد أن يقول لي إنه بحكم تعامله مدة طويلة مع المهاجرين غير الشرعيين العرب أصبح له إلمام باللغة العربية. وأكمل حديثه قائلا: «أنا المسؤول عن هذا المركز وأنا أعمل كذلك ضمن منظمة الصليب الأحمر الدولي التي أوكلت إليها مهمة تسيير هذه المراكز بإيطاليا... تفضلوا فلنجتمع كلنا بهذا المكتب حتى نمنحك صورة عن عملنا داخل هذا المركز». فوجئت وأنا بالمكتب بوجود فتاة محجبة قدمها إلي مدير المركز قائلا: «هذه مترجمتنا التي نعتمد عليها للتعرف على مشاكل النزلاء وللتحاور معهم». ورغم أن هذه الأخيرة قدمت إلي التحية بالإيطالية، فإن لكنتها أكدت لي أنها مغربية. بدأ اللقاء مع السلطات الإيطالية التابعة لوزارة الداخلية ومع المسؤولين عن المركز، وبدأت في طرح أسئلتي على المدير وعلى مسؤول تابع للشرطة الإقليمية بتورينو وعلى المسؤولة الإعلامية التابعة لوزارة الداخلية وعلى أخرى تابعة لوزارة العدل. فاستحوذ المدير على غالبية الإجابات وقال: «أول شيء نقوم به في هذا المركز هو منح المهاجر غير الشرعي معلومات ووثائق بلغته الأصلية توضح له حقوقه وواجباته والنظام المتبع لدينا، إضافة إلى منحه بعض التفاصيل التي تتعلق بأنواع الوجبات التي نقدمها والتي نحاول جاهدين أن تستجيب للمواصفات الثقافية والدينية وحتى الصحية للأجنبي النزيل بهذا المركز...». وقبل أن يكمل مدير المركز جوابه، قاطعته المسؤولة الإعلامية التابعة لوزارة الداخلية قائلة: «لدينا خدمات أخرى قضائية وقانونية كمنح النزيل استشارات في هذا الإطار أو توكيل محام لصالحه وبالمجان حتى يتمكن من الدفاع عن نفسه أثناء جلسته أمام القاضي. نمنح النزيل كذلك خدمات طبية ونتدخل على الفور في حالة إلمام مرض مفاجئ به، كما نمكنه كذلك من ممارسة شعائره الدينية مع ترتيب لقاءات خاصة برجال الدين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو من ديانات أخرى».وسألت المدير المسؤول عن المركز عن سبب منع المعتقلين من استعمال هواتف نقالة بكاميرات، ليجيب: «هو أمر يتعلق ب... احترام التعليمات والقوانين التي تصلنا من وزارة الداخلية...». فتدخلت المسؤولة الإعلامية قائلة: «تمكين النزلاء من الهواتف النقالة بالكاميرا هو ضد قانون الحرية الشخصية، حيث إن نزيلا ما قد يقوم بتصوير زميله ويمنح هذه الصورة لجهات خارجية قد تستعملها لتحقيق أغراض شخصية على حسابه». أحس المدير بنوع من الارتياح للباقة المسؤولة الإعلامية، وبادرني قائلا: «المركز يتسع لأكثر من 90 نزيلا ويضم حاليا 19 امرأة و57 رجلا، غالبيتهم مغاربة، وأظن أن نسبة المغاربة تصل إلى 30 % من النزلاء و...». توقف المدير عن الكلام لتقدم إلي المترجمة المغربية وثيقة كانت بجانبها تتضمن أسماء النزلاء وجنسياتهم المحتملة، لكنها قبل أن تتم عمليتها أوقفتها المسؤولة الإعلامية وأخذت منها الوثيقة قبل أن تصل إلي وقالت لها: «هذه الوثيقة تتضمن أسماء النزلاء ولا يجب أن يطلع عليها أي أحد، خصوصا الصحفيين». وتداركا للموقف وللارتباك الذي أحدثته المغربية المترجمة ودوناتيلا دجونتي حول الوثيقة، تدخل مدير المركز قائلا: «نحن نحترم كذلك النزلاء المسلمين بعدم منحهم لحم الخنزير وبتقديم أطباق ووجبات خاصة في شهر رمضان، إضافة إلى تخصيص أماكن لإقامة الصلاة». قاطعته قبل أن يسترسل في الحديث وأكدت له أنني توصلت بمعلومات تفيد بأن معتقلي المركز من المسلمين خاضوا إضرابا قبل أيام احتجاجا على تقديم إدارة المركز طعاما إليهم يتضمن لحم الخنزير. فكان جوابه: «لا، هذا لم يحدث ونحن لا ندخل لحم الخنزير إلى هذا المركز»، وقدم إلي وثيقة بالأطباق التي تقدم إلى المعتقلين حتى أطلع عليها. أحسست بأن كل ما كان يدلي به المدير ومعه المسؤولة التابعة لوزارة الداخلية يخفي وراءه حقائق عن انتهاكات يتعرض لها «الكلانديستينو» داخل هذا المركز، وتبادر إلى ذهني حادث مقتل المغربي حسن النيجل، 36 سنة، الذي فارق الحياة قبل شهور بهذا المركز، فسألت عن ملابسات وحيثيات هذا الحادث الذي مازال غامضا. قبل توصلي بإجابة بخصوص الموضوع، خيل إلي وكأن سؤالي كان عبارة عن قنبلة انفجرت بشكل مفاجئ، فقد سكت الجميع ولثوان معدودات قبل أن يبدؤوا في الالتفات إلى بعضهم البعض، ليقول المسؤول عن شرطة مدينة تورينو: «الموضوع مازال قيد التحري ولم نتوصل حتى الآن إلى أية معلومات تتعلق بهذا الموضوع». لكنني كررت سؤالي بصيغة أخرى وقلت: «لا أتحدث عن سير التحري بل أريد معرفة ما وقع بالضبط وكيف وجدتم الضحية». فأجاب، المدير: «لقد وجدناه ميتا بغرفته، وأعتقد أن ذلك يعود إلى إدمانه على المخدرات» وكان ردي «وانتهى الموضوع». فأجاب: «هذا فعلا ما وقع، لقد وجدناه ميتا ونحن لسنا مسؤولين عما حدث لهذا النزيل، فالمحققون يعملون كل ما بوسعهم للتأكد من ملابسات الحادث». وعن كيفية التعرف على المعتقلين وتحديد هوياتهم وجنسياتهم، وجهت سؤالا بخصوص الموضوع إلى ممثل الشرطة ومكتب الهجرة بمركزية تورينو، فقال: «لدينا 60 يوما للتعرف على جنسية وهوية النزيل، فإذا جلبناه إلى هذا المركز وبحوزته وثائق تدل على ذلك، فالترحيل يتم في أيام معدودات، لكننا في حالة العكس نلتجئ إلى القنصليات والبعثات الدبلوماسية الأجنبية المعتمدة بإيطاليا لمنحنا معلومات عن نزيل ما يشتبه في كونه مغربيا أو رومانيا أو برازيليا حسب شكله وملامحه، لهذا يمكن أن أشيد بالقنصلية المغربية بتورينو التي تتعاون بشكل كبير معنا وتمنحنا معلومات عن عدد من النزلاء المغاربة». انتهت أسئلتي وطلبت من المدير أن يسمح لي بالقيام بجولة في المركز وإلقاء المعتقلين، وليس النزلاء كما يصفهم المسؤولون الإيطاليون. فكانت البداية من مكتب الصليب الأحمر الذي قال عنه المدير: «بعد تسلمنا المهاجر السري من السلطات الأمنية الإيطالية، ندخله، كمرحلة أولى، إلى هذا المكتب لنستمع إليه ونعرف بعض التفاصيل منه تخص وضعه الصحي وانتماءه الثقافي وجنسيته، حتى نضعه في المكان المناسب ونوفر له كل الحاجيات التي يرغب فيها من مأكل وملبس وحاجيات أخرى، بعد ذلك نعرضه على الطبيب ثم يقوم بعملية الاستحمام قبل أن نسلمه ملابس وأغراضا أخرى لنمنحه سريرا في غرفة تتضمن خمسة أشخاص، وبعد يومين تعقد له جلسة أمام القاضي في حضور محام ومترجم بالمجان للاستماع إلى أقواله». المركز «CPT» كان يتكون من طابقين أرضي ويضم مكتب القاضي ومكاتب الأمن وأخرى تابعة للصليب الأحمر، وعلوي يتضمن مكاتب تخص تجميع الوثائق وبعض المخازن الخاصة بالملابس وأغراض أخرى يحتاج إليها المعتقلون. كنت متشوقا للقاء بالكلانديستينو ولمعرفة تفاصيل أخرى يحاول المسؤولون عن «CPT» تغييبها عني، فأظهرت رغبتي في ذلك وعدم اهتمامي بما كان يحكيه لي المدير عن مخازن وأروقة المركز وقلت: «أعتقد أن من هذا الباب يمكن ولوج الأماكن التي يتواجد فيها المهاجرون غير الشرعيين»، ففهم المسؤول قصدي ويطلب مني ومن الآخرين أن نلحق به ليلتف من حولنا رجال من الشرطة ومن جهاز الكاربينيري الذين قادونا إلى مكان كله قضبان حديدية، ذكرني بإحدى حدائق الحيوان بالمغرب. كان منظرا مؤلما أن تشاهد أناسا محجوزين وراء قضبان فقط لأنهم قرروا الهروب من «الميزيريا» بحثا عن آفاق أخرى وعن الحق في الحياة والوجود... مراكز تجميع المهاجرين يختصرها الإيطاليون في مصطلحات «CPT» أو«CPA» أو «CID»، وقد أنشأتها وزارة الداخلية الإيطالية قبل أكثر من10 سنوات بمقتضى قانون توركو نابوليتانو، لاعتقال المهاجرين غير الشرعيين من أجل التعرف على هوياتهم وجنسياتهم قبل الترحيل إلى البلد الأصلي. في بادئ الأمر، اقتصر بناؤها على مدن رئيسية مثل روماوميلانو وتورينو، لتصل فيما بعد إلى مدن أخرى مثل بولونيا، مودينا، باري، لامبيدوزا، فودجا، برينديزي، كلتانيسيتا وكاتانزارو، غوريتسيا، راغوزا وتراباني، ليصل عددها إلى 14 مركزا. وتقسم وزارة الداخلية الإيطالية هذه المراكز إلى ثلاثة أنواع وهي كما ذكرناها في السابق: CPA (مراكز الإقامة والاستقبال) ودورها ينحصر في استقبال وإسعاف المهاجرين غير الشرعيين الذين حاولوا التسلل إلى إيطاليا بشكل غير شرعي، وعددها لا يتجاوز خمسة مراكز، توجد كلها بالجنوب الإيطالي (باري، كالتانيسيتا، فودجا، سيراكوزا، لامبيدوزا). CID وعددها أربعة مراكز تتواجد بمدن (ميلانو، كروتوني، فودجا، تراباني)، تتكفل بالمهاجرين غير الشرعيين الطالبين للجوء السياسي. أما العدد المتبقي من المراكز فقد أطلق عليه اسم CPT (مراكز الإقامة المؤقتة)، ودور هذه المراكز يتمثل في تحديد هوية وجنسية المهاجر الغير الشرعي لترحيله إلى بلده الأصلي، وفي حالة عدم تمكن السلطات من ذلك فهي مجبرة، وحسب القانون، على إخلاء سبيله بعد قضائه شهرين فيها. ومن المنتظر، بعد تطبيق القوانين الجديدة من طرف وزارة الداخلية الإيطالية في القريب العاجل، أن يتحول اسم هذه المراكز إلى CIE (مراكز تحديد الهوية والترحيل) التي سيعتقل فيها المهاجر غير الشرعي أكثر من 18 شهرا إلى أن يتم التعرف على جنسيته وهويته لترحيله إلى وطنه.