تابعت إنجازا طبيا وإنسانيا كبيرا وقد ملأت قطرات من الدمع عيني، واهتز بدني وأنا أستمع إلى أم منحت كِلية لابنها هشام ذي ال32 سنة والذي يقوم بتصفية الدم منذ أربع سنوات، والزوجة التي منحت كِلية أيضا لزوجها أحمد لتضع حدا لمعاناته مع الدياليز، وهذه أولى عمليات زرع الكلى من متبرعين أحياء تقام بالمركز الاستشفائي محمد السادس بمراكش تحت إشراف فريق طبي مغربي متكامل، وقد تجاوبت روحي مع هذا الحدث الجميل لكوني، منذ مدة طويلة، لم تقع عيني على حدث مؤثر وإيجابي كهذا، لم أعد أرى سوى مشاهد العنف والألم وصراع الأهل حول المال والإرث والأراضي وصنابير الماء، ولن أخفي بالمناسبة تقززي من برنامج يدعى «الخيط لبيض» والذي أجده يسيء بشكل كبير إلى مشاعر المغاربة وإلى روابط الأسرة والقرابة والأخوة ويسيء، بشكل خاص، على الأسر التي تستغل فيه بشكل مهين. هناك قيم كثيرة نفقدها كل يوم، إذ تزحف المادية والأنانية والعدوانية على كل شيء.. حتى أصبح الجيران يستغربون حينما تلقي عليهم التحية، والأصدقاء يفاجؤون حينما تمد إليهم يد المساعدة، والطفيليون يتعجبون حينما تنادي بروح المواطنة، والفضوليون يتساءلون حينما تحمل سجادة الصلاة وترفع أكفك بالدعاء لك ولأهلك ولكل المسلمين. لقد شعرت بالفخر لكون هاتين السيدتين المغربيتين (نكاية في المشارقة)، قدمتا مثالا رائعا في الحب والإيثار والمودة والشجاعة والجرأة والرقي، وأثبتتا أن الحقيقة الباقية أن الأنوثة لا تمنح سوى الحب والأمل والحياة. هاتان السيدتان عبرتا بروعة عن حب لا مشروط ومنحتا الحياة لقريبيهما بمنح عضو من جسديهما، ليس بدافع الواجب وإنما بدافع ما هو مقدس، الأمومة والزواج. أحسست بانفعال كبير وأنا أتابع هذا الموقف الإنساني القوي، في زمن أصبحنا نبحث فيه عبثا في أعماقنا عن أحاسيس وديعة نسيناها أو سقطت منا سهوا أو قصدا في معارك الحياة الخاسرة. أصبحنا نعيش شوقا وحنينا لكل الأشياء الجميلة وقد تصلبت قلوبنا مع الزمن. أعتقد أننا في حاجة إلى نماذج مماثلة لهاتين السيدتين الكريمتين كي نزرع مكارم الأخلاق في نفوس صغارنا.. فزرع الأخلاق كزرع الأعضاء، يتطلب الكثير من العطاء والجهد والأمل والحب والتضحيات وفريق كبير يضم كل الأطراف، وصور مشابهة لزوجة تمنح كِليتها لزوجها المريض قد تحرك مشاعر أزواج يعيشون الحياة بلون الغدر وطعم الخيانة والضغينة والانتقام، ربما تتغير معالم حياتهم نحو الأفضل وينصتون قليلا لخفقان القلب عوض النفس الأمارة بالسوء. هناك أشياء كثيرة تعطى بمقابل، إلا الحب.. لا تنتظر مقابله جزاء.. سوى الحب. لأنه ميلاد جديد لكل شيء جميل، ولأنه أساس الأسرة والبيت والمجتمع والوطن، أساس العمل والإحسان والنجاح ومنبع الإبداع والتميز. تلك الشحنة الإنسانية والعاطفية التي تركتها بداخلي مشاهد عيون الابن والزوج والأم والزوجة وهي تشع فرحا ونشوة، جعلتني أطمئن إلى أنه لازال في الدنيا خير.. ولازال في القلوب أمل.. ليكون للحياة معنى.. وليبقى للحب معنى.