منذ انتصارات الاكتشافات الجغرافية وتمدد الكرة الأرضية وإعادة اكتشاف العالم من جديد، استقرت مجموعة من الآليات التي تحدد الكثير من سلوك الدول في البيئتين القريبة والبعيدة منها. ولعل الجغرافيا السياسية التي ابتلعت التاريخ في القرن السادس عشر وانتصرت لموجة الفلسفات الكبرى آنذاك -بمقولاتها التقليدية ويقينها المفرط بالوعي بقيمة المكان- هي أكثر من غيرها التي تحدد اليوم اتجاهات عقارب الساعة السياسية في يد الدول ومواقيت البدء والحسم، وهي التي تحدد -أكثر من غيرها أيضا- جدول مصالح الدول القومية. وهذه هي الحقيقة التي نحاول أحيانا التغافل عنها كلما داهمتنا الأحداث غير المتوقعة، في محاولة لإيجاد منطق جديد لتفسيرها. لقد كان المستشار الألماني بسمارك يقول إن «الجغرافيا هي الحقيقة الدائمة في السياسة الخارجية». وهو نفس التوجه الذي يذهب إليه البعض الآخر عندما يعتبر أن الدول والأفراد إذا كان بإمكانهم تغيير التاريخ فليس بإمكانهم تعديل الجغرافيا. ونلمس هذا التصور بوضوح عند العاهل الراحل في كتاب «ذاكرة ملك»، إذ يقول: «ليس بإمكاني تغيير موقع كل من المغرب والجزائر، ويجب أن يتذكر المغاربة والجزائريون دائما أنهم لن يقدروا على تغيير موقع بلديهم». ويقول الدكتور الحسان بوقنطار في مؤلفه «السياسة الخارجية المغربية.. الفاعلون والتفاعلات»: «إن الجغرافيا قد تكون عامل تواصل وتعايش، كما قد تكون عامل توتر ونزاع. ولا يبدو أن التحولات الكبرى التي شهدها النظام الدولي قد ألغت الأهمية الجيوسياسية لهذا العامل»، ويضيف: «وقد ظل هذا المعطى يضغط بكل ثقله منذ استقلال المغرب، الذي مازال يسعى إلى ترتيب تفاعله مع جواره بشكل يستجيب لمصالحه. ويبدو جليا، إلى حد الآن، أن هذا الجوار هو مصدر توترات، خصوصا مع الجارة الجزائر». فالتاريخ الأسود للجزائر في تعاملها مع المغرب لم ينمح بعد، انطلاقا من حرب الرمال إلى تبني المعارضين ضد النظام المغربي وتسليحهم وإرسالهم عبر الحدود بين البلدين، إلى تجنيد مرتزقة البوليساريو ودفعهم إلى معركة خاسرة في أقاليمه المسترجعة، إلى الانتقام من الجالية المغربية المقيمة بالجزائر وطردها من التراب الجزائري ومصادرة أملاكها، والهجوم على فندق «أسني» بمراكش الذي انتهى بإغلاق الحدود بين البلدين والوقوف ضد المغرب في أزمة جزيرة «ليلي»، واستمرار معاكسة الوحدة الترابية للمغرب، والتورط الواضح للرجل المريض في أحداث العيون الأخيرة، وفضائح التزوير الإعلامي وشن حرب الدعاية الهدامة ضد المملكة المغربية، حسب ما كشف عنه موقع «ويكيلكس». ودأب النظام الجزائري على استغلال ورقة الصحراء المغربية في التنفيس عن الاحتقانات السياسية والاقتصادية الداخلية، فالمغرب -بالنسبة إلى الجزائر- عدو احتياطي لتصريف الأزمة الداخلية التي تستفحل حاليا في ظل سياسة الوئام المدني والانتفاضات المتوالية لمنطقة القبائل. واتضح، بعد وصول بوتفليقة إلى الحكم، أنه ليس الرجل المناسب الذي بإمكانه إنهاء الحرب الباردة القائمة بين البلدين منذ 1999، بل إنه دشن عهده بخاطب شديد اللهجة عندما اعتبر أن الجزائر ضحية جوارها الذي تكالب عليها، وذلك منذ حرب التحرير جاعلا من الجرائر تلك البقرة الحلوب، واتبع ذلك باتهامات وجهها إلى المغرب بإيواء وغض الطرف عن تسللات الجماعات المسلحة التي تتخذ من الحدود المغربية قاعدة خلفية لتنفيذ عمليات إرهابية. وتؤكد متابعة السلوكات الجزائرية على الصعيد الدبلوماسي، منذ انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيسا للجزائر، أن تغييرا جوهريا في السياسة الجزائرية، إزاء المغرب عموما وبشأن قضية الصحراء على وجه الخصوص، لا يزال بعيدا عن إمكانية التحقق العملي، ففي مختلف التظاهرات والتجمعات الإقليمية والدولية كان الهاجس الأساسي للدبلوماسية الجزائرية هو إضعاف الحضور المغربي في مختلف المحافل والمؤتمرات الدولية، وقطع جسور تواصله مع المحيط الخارجي، وعزله عن المجتمع الدولي. إن الجزائر ما تزال تقف أمام استكمال المغرب لوحدته الترابية، إذ سخرت كل إمكانيتها الدبلوماسية والعسكرية واستغلت ظروف الحرب الباردة سابقا لخلق جو مناوئ للمغرب في بعض المحافل الدولية، وهي بذلك تسعى إلى تمزيق وحدة المغرب الترابية، الشيء الذي لا يمكن قبوله مغربيا، هذا في الوقت الذي اقتنعت فيه الدول العظمى بأن الحل السياسي لقضية الصحراء هو السبيل الوحيد لإنهاء هذا النزاع طويل الأمد. إن منطق الحرب الباردة وما يسمى بفكرة المليون شهيد يدخلان في عداد الأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب والتي ما زالت تشكل أحد ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية تجاه المغرب، في الوقت الذي يتجه فيه العالم المعاصر نحو التكتلات رافضا كل أشكال المحاولات الانفصالية التي تمزق الدول. ورغم أن الجزائر أعلنت أنها لا تملك أية مطالب أو أطماع ترابية وأن مساعدتها لجبهة البوليساريو هي موقف مبدئي، فإن الأهداف الحقيقية للجزائر تتمثل في ما يلي: - تطويق المغرب جغرافيا وعزله عن محيطة الإفريقي. - محاولة فرض الزعامة في شمال إفريقيا. - نهج سياسة المجال الحيوي تجاه المغرب. - حاجة الجزائر الملحة إلى ممر عبر الصحراء إلى المحيط الأطلسي لتسويق مناجم جديدة جنوبالجزائر. - تخوف الجزائر من إثارة المغرب لموضوع السيادة على تندف ومناطق أخرى مجاورة. كذلك، ما يبعث على الاستغراب حقا هو موقف الجزائر تجاه مصير اللاجئين الصحراويين. فعلى خلاف ما يقع في سائر البلدان الأخرى التي تستقبل أعدادا مهمة من اللاجئين، والتي تسعى عادة إلى إقناع المجتمع الدولي بضرورة العمل على عودتهم إلى بلدانهم أو إعادة توطينهم إذا ما استحالت هذه العودة، فإننا نجد الجزائر تعارض بشدة عودة سكان المخيمات إلى الأقاليم الصحراوية المغربية. ومن المتوقع أنها سوف ترفض أيضا التعاون مع المفوضية السامية للاجئين في حالة ما إذا قررت هذه الأخيرة تطبيق برنامج لإعادة توطين اللاجئين الصحراويين في بلدان أخرى. وفي هذه الحالة، فإنها ستتنصل مرة أخرى من الوفاء بالتزاماتها الدولية تجاه اللاجئين الصحراويين والمجتمع الدولي. فالجزائر تتحمل المسؤولية الكبرى في ما يرجع إلى مصير اللاجئين الصحراويين، باعتبارها البلد المستقبل وبلد اللجوء الأول، وأيضا بصفتها صاحبة السيادة الإقليمية وفقا للقانون الدولي. إن الجزائر لم تف بالتزاماتها الدولية في ما يتعلق بالسكان المحتجزين فوق أراضيها بموجب اتفاقية 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين والبرتوكول ذي الصلة لسنة 1967. كما انتقدت اللجنة الجزائر بسبب العراقيل التي تضعها في وجه برنامج تبادل الزيارات العائلية الذي تشرف عليه المفوضية السامية للاجئين بين مخيمات تندوف والأقاليم الجنوبية للمملكة، وكذلك الممارسات اللاإنسانية والمعاناة اليومية، حيث يتم استغلال الأطفال والنساء في أعمال لاأخلاقية نظير حصولهم على الغذاء، إضافة إلى نهب المساعدات الإنسانية الدولية الموزعة بواسطة الهلال الأحمر الجزائري والتي جنى من ورائها القادة الانفصاليون وبعض جنرالات الجزائر أموالا طائلة. نخلص إلى القول إن على الجزائر أن تكف عن التحرش بالمغرب ومعاكسة وحدته الترابية، وأن تعترف بشرعية سيادته على أقاليمه الصحراوية، وأن تنخرط في مفاوضات لإيجاد حل نهائي ومتوافق بشأنه لقضية الصحراء المغربية.