يخاف بعض الحكام الاستماع إلى شعوبهم، والأمر يبدو عندهم مسألة مبدأ، فالظن عندهم أنهم إذا سمعوا أو استشاروا أو حاوروا أو قايضوا مع الداخل فقدوا هيبتهم وربوا شعوبهم على الطمع فيهم والاستهانة بهم والخروج عليهم. وقديما قيل إن قربت من السلطان فإياك والدالة عليه، فهلاك الرجال أن يظنوا أن لهم دالة على السلطان، والدالة في اللغة كالخاطر في الدارجة المصرية والمَوْنَة في الدارجة الشامية، أي أن يكون لرجل حظوة عند السلطان فيتصرف بناء على افتراض أن السلطان يرعى له حقه. وفي آداب مخاطبة السلاطين القديمة أيضا، أنك ما أسديت إلى السلطان معروفا إلا كرهك من أجله وربما عاقبك عليه، لأن السلاطين لا يحبون أن يكون لأحد دين عليهم يطالبهم به أو يؤاخذهم فيه. فالسلاطين أخطر على حلفائهم وأصدقائهم والمتعاونين معهم منهم على أعدائهم. لا يريد السلطان حلفاء أو أصدقاء لأن للحليف وللصديق حقا والسلطان لا حق عليه، أو هكذا يشتهى أن يكون. إنما يسر السلطان أن يكون له عبيد، فهو عندها الكريم المغدق، يفعلها لكرمه وهواه لا لأن عليه حقا يؤديه أو جميلا يرده. والكلام هنا على ما صنعته الحكومة المصرية الرشيدة السعيدة مديدة الليالي بالمواطنين المصريين المسيحيين في حي الهرم، ثم ما فعلته بحزب الوفد في الانتخابات. لقد عشت أكثر عمري في مصر، ولم أعرف في مصر إلا صبورا، بل إن من عرفت في مصر أصبر أهل بلد عرفتهم، ونصيب مسيحيي مصر من الصبر نصيب المسلمين، ثم يزيد عليه أنهم كانوا في بعض العهود يؤخذون بما لا يفعلون بل بما يفعله مسيحيون آخرون من الفرنجة والرومان. وربما لأنني دائم المقارنة -بحكم الدراسة- بين مصر والشام، أرى أهل مصر من المسيحيين قوما أكرمين، لم يتحالفوا مع الاستعمار الفرنسي ولا البريطاني ولا الإسرائيلي، بل لم يتحالفوا مع الصليبيين وقد وردوا مصر مرارا، ولم يكن بينهم بشير جميل ولا سمير جعجع ولا أنطوان لحد ولا سعد حداد، ولم تثنهم عن هذا الاتجاه فتنة طائفية أو قرار بعزل البابا أو خط همايوني أو مملوك يفتري عليهم ويجور. والكنيسة المصرية بالتحديد، الممثل الشرعي والوحيد للأقباط، مواقفها الوطنية في كل أزمة مشهود لها من القاصي والداني، لم يستقبلوا الحاخامات الذين استقبلهم بعض المسلمين منا والناطقين باسمنا، وحين ذهب رئيس مؤمن إلى القدس معترفا بحق الإسرائيليين في عكا وحيفا والناصرة، لم يذهبوا ساسة ولا حجيجا، والكنيسة المصرية هي السد الذي يقف بين شعبها وبين بعض الأدعياء الوقحين من أهل المهجر الذين كادوا يشكلون طبعة مصرية من جيش لبنان الجنوبي حليف إسرائيل. إلا أن هذه الكنيسة أيضا لم تشكل يوما تهديدا لأي حكومة مصرية، جيدة كانت أو سيئة، وربما كان خوف بعض المسيحيين من بديل إسلامي للحكم الحالي يدفعهم إلى مساندة الحزب الوطني، وربما توقع البعض، ولا لوم عليه إن فعل، أن يرد الحزب الوطني وحكومته الرشيدة الجميل فيكفوا الأذى عن المسيحيين أو أن يعطوهم بعضا مما يريدون. إلا أن القاعدة السابقة الآتية من العصور الوسطى فعلت فعلها، فقد انقلب السلطان على حلفائه بالضبط في اللحظة التي كانوا يظنون أنه يحتاجهم فيها ليؤكد قوته واستغناءه، وإن ما حدث من عنف ضد المسيحيين وظلم لهم في الهرم لا تفسير له غير هذا. ثم كان ما كان من أمر حزب الوفد وما صنعت الحكومة به. فقبل الانتخابات ظهر هذا الحزب وكأنه حليف الحكومة الأهم، فالإخوان دخلوا الانتخابات عالمين أنهم مبعدون عنها وأن الوفد سيملأ مقاعدهم، لكي تبدو الحكومة الجديدة متعددة الألوان، بين الليبرالي الجديد والليبرالي المتجدد، أو بين الفرعون والفرعوني، فتكون حكومة ثلج ماء، متحدة الحال مفترقة الأسماء. وتوقع الوفد الأمر ذاته، فالحكومة تحتاجه، تحتاج معارضة لا تعارض، ومختلفا لا يخالف، إلا أن هذا التوقع نفسه ربما أدى بالحكومة الرشيدة إلى أن تنقلب على حليفها لكي لا يظن أنها تحتاجه، ولكي لا يظن أحد أنها تحتاج أحدا أصلا ولا فرعا. وقد وصلت الرسالة.. أنهم سيحكمون مصر وحدهم وعلى المتضرر أن يتركها ويرحل أو يموت بغيظه. وربما لو كان السلطان هادئ البال مرتاحا إلى تمكن الأهل والآل، وأن لهم من بعده المآل، لما أتى هذه الأفعال، ولما قلب ظهر المجن للقوم، سواء لمن صحبه اختيارا كحزب الوفد أو لمن صبر عليه اضطرارا وأغضى على المر منه مرارا وتكرارا كإخوتنا المسيحيين. وتحسن المعارضة المصرية صنعا، وعمادها الإخوان المسلمون وجمعية التغيير والدكتور البرادعي، إن مدت يدا إليهم جميعا، ويحسن من المسلمين والمسيحيين الذين وقعوا من فترة في فتنة أضرت بهم أن يعرفوا أن المستفيد الوحيد من تفرقهم هو هذه الحكومة الرشيدة التي باتت توزع الظلم بالقسطاس على كل الناس، لا تفرق بين مسلم ومسيحي وشيوعي وليبرالي وقومي وانعزالي، بل لا تفرق بين خصمها وحليفها. وإن في العالم العربي، بل وفي الشام تحديدا، تجارب لتحالفات بين إسلاميين ومسيحيين عادت بالخير على الطرفين، فإن صح هذا الحلف مع مسيحيي لبنان وللبنان ما له من تاريخ، فهو أن يصح مع مسيحيي مصر أولى. وبعد، فإن اللطيف في الحالات التي ينقلب فيها السلطان على حلفائه هو أن داءه من ذاك يستمر به حتى يبقى وحده تماما. فإن حكام البلاد اليوم حلف من بعض رجال الأعمال وبعض المستأجرين لهم من سكان العشوائيات يعملون بلطجية لدى الحكومة، وكل ما بينهما من الطبقة الوسطى المصرية فهو في طريقه إلى الانقراض، قلة منهم تصعد فتكون من رجال الأعمال، والأغلبية العظمى تهبط فتعيش عيشة عشوائية وإن بقيت في بيوتها. لكن هذا الحلف الذي يزيد فيه عدد العشوائيين على عدد رجال الأعمال باطراد، لا بد وأن يصل إلى نقطة يراجع عندها كل من فريقيه حاجته إلى الآخر ثم يملي شروطه. ولأن أهل السلطان المباشر هم من رجال الأعمال، فالظن أنهم سيضربون حليفهم الذي يعتمدون عليه لأنهم يعتمدون عليه، ولكن لن يجدوا يدا ليضربوا بها، إلا أن تراهم بستراتهم الأنيقة ونظاراتهم الشمسية (لا أدري من أغراهم بها إلى هذا الحد) يركضون وراء الناس في ميدان التحرير يضربونهم بالهراوات. فإذا انحلت العروة بينهم وبين حاملي الهراوات باسمهم، فقراء البلاد الذين يفقرون أنفسهم بطاعة أغنيائها، فهي الفوضى الكبرى. فإن وجد لها رجل أو جماعة أو حزب يوجهها فربما، أقول ربما، يفرجها علينا وعلى سائر الأمة الرحمن، ويرحم الودعاء من عذاب الرومان.