- 4 دخول الوزيرة على الخط. حين شرعت في قراءة التقرير الذي نشرته إحدى الجرائد استوقفتني منه طريقة إخراج مادته الإعلامية قبل أن أعرف محتواه ومضمونه. فقد اختار مصمم التقرير أن يثبت في صدر المربع الذي خصص له صورة الوزيرة نزهة الصقلي واقفة منتصبة حاضرة حضورا جسديا طغى على المضمون، وشطر التقرير إلى شقين، فجاء الكلام مرصوفا على ضفتي الجسد، وكأنه مجرد إطار للصورة، فانتقل الموقف من لغة الكلام إلى لغة الجسد. وأصبحت الصورة فيه مركز الثقل وفق قراءة مدرسة الجشتلت في تحليل الانتقال من الكل إلى الجزء، ومن المركز إلى الهامش في ما يراه الإنسان. وقد قدرت أنه كان بالإمكان الاستغناء عن الصورة أصلا في تقرير صغير في حجمه يعالج قضية ثقافية لا علاقة لها بالجسد. وحين يصر صاحب التقرير على دعمه بالصورة، فإن العادة جرت أن يثبت الكاتب صورته هو، أو صورة من ينتقده أو يتحدث عنه عموما، وإذا هو اختار إثبات صورة شخص آخر كان له نفس موقف الوزيرة. فقد كان بالإمكان إثبات صورة الناشطة فوزية العسولي. ومعنى هذا الاختيار تحديدا أن صاحب التقرير قصد عن وعي اللجوء إلى صورة الوزيرة لما يمثله منصب الوزارة من معنى السلطة والقوة. وهذا أسلوب مبتذل في التخويف وفي ممارسة الإرهاب الثقافي الممنهج ضد العلماء. وقد فات صاحب المقال أن قلوب العلماء هي بحمد الله معمورة بإيمان راسخ من مقوماته أنه لا فاعل في الكون إلا الله، وهم يقرؤون في كتاب الله قوله تعالى: «ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد» [ الزمر 37]. وقد علمهم القرآن أن يقولوا لمن بغى عليهم: حسبنا الله ونعم الوكيل... وأفوض أمري إلى الله. - 5إن من المستغرب أن يتجاوز كاتب مقال مستوى التعبير عن رأيه إلى الاستنصار بالوزارة وبالجمعيات، لأن ذلك ليس من طبيعة العمل الصحافي النزيه الذي يكتفي بعرض الرأي ويفتح باب النقاش حوله لكل مكونات المجتمع، إلا إذا تعلق الأمر بخطة منسقة توزع فيها الأدوار. - 6 إن الذي يبدو وجيها وأكيدا هو أن المقال وما احتف به وما سيتلوه ليس عملا إعلاميا عاديا وإنما هو خطوة تندرج ضمن حملة استباقية للالتفاف على النتائج الصادمة التي أعلن عنها تقرير وزارة العدل الذي سجل أن العنف ضد النساء قد ارتفع بنسبة 160% خلال سنة 2007. وهذه الحصيلة السيئة غير المشرفة للمجتمع المغربي تستدعي التملص منها بإيجاد مشجب تعلق عليه، وبالبحث عن حلاق يجب أن يعلق إذا سقطت صومعتهم المتهاوية القائمة على غير أساس. والتقرير يريد أن يوهم بأن فتاوى العلماء هي السبب في تنامي ظاهرة العنف، وكأن المشرفين على قطاع تدبير الشأن الاجتماعي عموما والنسائي خصوصا يتعاملون معه تعاملا ربويا ليكون النجاح لهم والإخفاق محسوبا على غيرهم، حتى ولو لم يكونوا في مواقع القرار. وهم يريدون أن يوهموا بأن الذين يعتدون على النساء من الأزواج الجهال، ومن السكارى والمخدرين ومن محترفي الجريمة الذين لا يتورعون عن إشهار السلاح الأبيض ضد الرجال والنساء والأطفال هم في مجموعهم من أهل التدين الذين لا يتصرفون إلا وفق فتاوى العلماء، وهذه تهمة للمتدينين وتبرئة للمجرمين. إن الواقع هو أن العنف بكل صوره وأشكاله التي يمارسها الرجال والنساء والأطفال، يظل ظاهرة اجتماعية مرضية يجب أن توجه إليها دراسات علمية غير مؤدلجة لتصل إلى إدراك أسبابها الحقيقية. وفي رأيي أن معالجة الظاهرة يجب أن تتحول إلى مشروع مجتمعي لا يستأثر به توجه واحد، وإنما تشارك فيه كل التيارات الفكرية والأطياف السياسية والتكتلات المجتمعية من خلال مجلس أعلى لمناهضة العنف في المجتمع المغربي. - 7 إني أتوقع أن ترد الوزيرة بأن وزارتها هي الوصية الرسمية على قضايا المرأة وهذا هو مبرر تدخلها. وهذا صحيح حينما لا يكون معنى الوصاية تحيزا أو انسياقا مع ادعاءات غير مستوثق منها، وحينما تسمح تلك الوصاية بفتح نقاش حول قضايا المرأة، وإلا فإن بالإمكان اعتبار وزير الاتصال مثلا مخولا لإسكات الصحفيين بموجب وصايته على القطاع. - 8 إن المفترض في الوزيرة، باعتبارها جزءا من حكومة أناط بها الدستور تنفيذ القوانين، أن تحترم كل الضوابط المتعلقة بالفتوى بعد صدور ظهائر تأهيل الحقل الديني، وذلك بأن ترجع إلى الجهة المخولة قانونيا وهي المجلس العلمي الأعلى، لتستوضح موقفه ولا تستبقه بالقول في قضية دينية، لأن القوانين الصادرة في الموضوع لا تجعل الوزراء مخاطبين للعلماء ولا موجهين لهم، ولأن مؤسستهم مستقلة وهي مرتبطة بمؤسسة الإمامة العظمى. وأنا أعتقد أن الوزيرة لم تصل بعد إلى تمييز موقعها باعتبارها وزيرة عن متطلبات انتمائها، فلذلك أصبحت تخرج بخرجات إيديولوجية عجيبة تستهدف تدين الأمة من غير أن تعود من ذلك بطائل طبعا، وقد أعلنت عن رغبتها في إيقاف أذان الفجر الذي يتردد في كل البلاد الإسلامية والذي تضبطه أحكام شرعية يعرفها العلماء. - 9 إن الوزيرة بخرجاتها أصبحت تعلن عن قدرتها على ممارسة الاجتهاد في الدين، شأنها في ذلك شأن المستهينين بشروط الفتوى. وإذا كانت الوزيرة ترى أن المنصب السياسي يؤهلها للخوض في قضايا شرعية، فإننا سنكون شاكرين لها لو تفضلت بإزالة الإشكال عن قضايا لازلنا نراها عويصة، فتوضح لنا كيف تفهم مدلول القبضة والبسطة في تعلقات القدرة، ومدلول الحال التي يقال عنها إنها واسطة بين الوجود والعدم، وحقيقة الكسب في المعتقد الأشعري، وكيف تلتقي الإرادة القديمة بالقدرة الحادثة، وتبدي لنا موقفها من تصفية الفريضة المشتملة على الوصية الواجبة التي تختلف المحاكم إلى الآن حول تصحيحها عن طريق العول أو عن طريق المناسخات، إلى غير ذلك من القضايا التي نحن في حاجة إلى من يفيدنا فيها. إني أدعو الوزيرة إلى إبداء الرأي في هذه الأبواب الاجتهادية المفتوحة، وإن كنت على يقين من أنها لن تفهم حرفا واحدا مما قلت. وقصدي بيان أن القول في الدين بناء عال لا يتسوره إلا من امتلك أدواته، أو من لا يأبه إلى أن يكون قوله خطأ أو صوابا. - 10 إن الوزيرة صرحت بأنها ترفض استعمال الدين في تبرير الاعتداء على النساء. وأنا أقول: إن الدين ليست فيه إمكانية الاعتداء على أحد أو الإساءة إليه، لأن الذي أنزل هذا الدين أراده رحمة للعالمين، والرحمة لا يمكن أن تشكل إذاية لأحد. والمرأة المسلمة في بقاع الأرض أكثر ثقة بشريعة الإسلام منها بما يعدها به أي إنسان. إن المرفوض من قول الوزيرة هو إصدارها هذه التعليمة الحاسمة القاضية بعدم استعمال الدين في موضوعات وقضايا لا ترى فيها للدين مدخلا، وهي تسمي ذلك توظيفا، والحقيقة أن الدين ما أنزله الله إلا ليوظف في حياة الناس، وفي تحقيق مصلحتهم على المراد الإلهي. ولنا أن نسأل الوزيرة إن كانت هي لم تتورط في استخدام الدين وتوظيفه وهي تعمل على استدعاء المواطنين للتجاوب مع برامجها الاجتماعية. وكم من مرة رفعت شعار اقرأ للتحفيز على محو الأمية، وكم من مرة استعملت قول الله تعالى : «وتعاونوا على البر والتقوى» [المائدة 2]، وكم من مرة رددت كلمة المسؤولية مع أنها مقتبسة عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». وقد كان ضروريا أن تلجا الوزيرة إلى هذا ما دامت تخاطب شعبا مسلما يتجاوب مع القرآن ويتفاعل معه. إن آيات القرآن الكريم متنوعة في موضوعاتها، ومعظمها يهتم بقضايا الإنسان الحياتية أكثر من اهتمامه بجانب العبادة، ويكفي من ذلك أن تكون أول آية من القرآن وهي اقرأ، وآخر آية منه وهي آية توثيق الدَّين متعلقة بجوانب معيشية. - 11 وأخيرا إني أتوقع أن يحوّل البعض هذا النقاش وينقله إلى ساحة أخرى ليجعله موقفا ذكوريا ضد امرأة تتحمل مسؤولية وزارية، وهذا شيء أدفعه بقوة لأنني أكن في نفسي لكثير من النساء الفاضلات الكثير من الاحترام، وأنا أعتز بإسهام عالمة كبيرة هي د. عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ وباحثة أصيلة هي د. فوقية حسنين محمود في تكويني العلمي، وأسجل أنني عملت في كل مستويات التعليم مع نساء فاضلات أوجبن احترامهن على كل من تعامل معهن. وقد قدر لي أن أتعامل مع مسؤولات كن في المستوى المشرف للمرأة المغربية وهن يتحملن المسؤولية. وقد زارتني في مقر المجلس العلمي بوجدة الوزيرة نزهة الشقروني فرأيت فيها امرأة عاقلة رصينة مستوعبة لقيم أمتها، وسرني أن تبلغ المرأة المغربية ذلك المستوى. وعملت بالمجلس العلمي مع نساء مغربيات كثيرات تفانين في خدمة الإسلام وفي أداء رسالته، وفي ترقية المرأة المغربية، وعملنا جميعا على تركيز وجود علمي محترم للمرأة حتى أصبح قوامه عشرات الحافظات للقرآن الكريم، وعشرات النساء الواعظات اللواتي يؤطرن الآن عشرات الآلاف من النساء على مستويات محو الأمية وتحفيظ القرآن والوعظ والإرشاد. ولعل هذا هو السبب الكامن وراء الزوابع التي تتداول أدوارها جهات يغيظها هذا النشاط. رئيس المجلس العلمي بوجدة