في غمرة أجواء «المسيرة الخضراء» حل بالمغرب ثلاثة شبان يتحدرون من أصول صحراوية، كان في مقدمتهم خلي هنا ولد الرشيد، رئيس حزب الاتحاد الصحراوي، الذي كانت تعول عليه الإدارة الإسبانية لاستمالة أهواء سكان الساقية الحمراء ووادي الذهب لفائدتها. ذلك الشاب النحيل، الذي يفيض من عينيه بريق لامع، لم يكن يجيد الحديث باللغة العربية، فقد كانت لهجته خ ليطا من الحسانية وشذرات من العربية، لكنه كان شديد التركيز. فقد كان يحسن التعبير عن أفكار باللغة الإسبانية، وأدرك، منذ الوهلة الأولى عندما حط الرحال في فيلا صغيرة في حي أكدال في الرباط، أنه لا بد من أن يتعلم الفرنسية إلى درجة يصبح فيها فرنسي اللسان أكثر من الفرنسيين. وقتذاك كان الديوان الملكي هو محاور الصحراويين، الذين قدموا الولاء والبيعة للملك الراحل الحسن الثاني. وكان المستشار أحمد بن سودة أول مسؤول مغربي يتسلم تدبير الإدارة بعد انسحاب إسبانيا، وفق اتفاقية مدريد. كان بن سودة يقيم في فندق الباردور، الذي سيتحول لاحقا إلى إقامة مفضلة لأفراد بعثة المينورسو، بعد أن أدخلت عليه تحسينات في البناء والتأثيث، حافظت على طابعه الأصلي. يبدأ نهار بن سودة باستقبال الشيوخ والأعيان وفئات الشباب، الذين كانوا يتجمعون أمام بوابة الفندق، كان يخطب فيهم، مؤكدا أن المغرب لم ينس أبناءه وأن معركته في مواجهة إسبانيا لاستكمال الوحدة الترابية جنوبا كانت غايتها رد الاعتبار للإنسان الصحراوي، من خلال صيانة كرامته وتكريس حريته. كان يسأل عن المستويات التعليمية لبعض القادمين، وكم كان مؤثرا أن السلطات الاستعمارية لم تشيد المدارس ولا المستشفيات، وإنما اكتفت بتحويل العيون إلى ثكنة عسكرية تحيط بها بنايات قليلة متناثرة في شكل أقواس روعي فيها حماية السكان من لهيب الحرارة المفرطة. كانت صورة العيون لا تزيد عن بضعة أحياء هامشية يتخللها سوق للتجارة الحرة، إذ يتم استيراد الألبسة وبعض المنتوجات الغذائية والسجائر والمواد الإلكترونية من لاس بالماس، فقد كانت تلك هي التجارة الوحيدة التي شجعها الإسبان، فيما استمرت عادات السكان في الترحال ونصب الخيام في البادية الصحراوية الفسيحة. عندما رحلت الإدارة والجيش الإسبانيان عن المنطقة، انتعشت الآمال وشرع شيوخ وأعيان في نبش الذاكرة . ولم تكن أي جلسة تخلو من عرض شريط الذكريات، الذي يعكس ترابط حلقات النضال بين جنوب المغرب وشماله. وقد صادف أن الوالي أحمد بن سودة حين كان ينصت إلى النبض المتدفق لمشاعر ابتهاج المواطنين، كان بعضهم يحكي عن أبيه أو جده أو معاناة مع الاستعمار الإسباني، الذي كادت المقاومة تجليه عن الأرض لولا التواطؤ الفرنسي الإسباني في معركة «أوكافيون». في هذه الفترة كان الشاب ولد الرشيد قد استقر في الرباط، وشرع في إجراء الاتصالات مع أبناء المنطقة المقيمين بها منذ عقود. وحين كان يجالس أولائك الصحراويين المتحلقين حول طقوس الشاي، متربعين على السجاد، كانت هناك قضية محورية واحدة تستأثر بالاهتمام، فقد عاد كاتب تعليقات إذاعة العيون، التي كانت تتحدث عن الألغام وعن المخاطر التي ستعترض المشاركين في المسيرة الخضراء لثنيهم عن التقدم إلى الأمام إبان الوجود الإسباني، ليدبج تعليقات وحدوية، واستقرت مواقف شيوخ متنفذين على محاربة الانفصال والتصدي لأوهامه. جيلان التقيا حول هدف واحد. وفيما كان رئيس الجماعة الصحراوية، الشيخ خطري ولد سعيد الجماني، يمثل الشرعية التاريخية في تصحيح المسار، كان خلي هنا ولد الرشيد يعكس طموحات الجيل الجديد من الصحراويين. وكما أن الجماعة الصحراوية، التي كان الاستعمار الإسباني يراهن عليها لتنفيذ مخططاته، باعتبارها تمثل السكان، قلبت الطاولة في وجه المحتل، وأقرت، في بادرة لا تقل قوة عن خيار تقرير المصير، انتماء الصحراويين إلى الوطن الأصلي، كذلك تبخرت أحلام الاستعمار الفرنسي في الرهان على حزب الاتحاد الصحراوي، الذي جاء ممثلوه لتقديم الولاء إلى السلطة المركزية عن طواعية واختيار وإيمان بحتمية انتصار البعد الوحدوي على غيره من الأوهام. بيد أنه في ساحة الميدان كانت تجري تطورات أخرى، ولعل أبرز تعبير عنها يكمن في الرسالة صارمة اللهجة، التي بعث بها الملك الحسن الثاني إلى الرئيس الجزائري هواري بومدين. حدث ذلك في منتصف فبراير 1976، حين توغلت قوات من الجيش الجزائري في منطقة امغالا، وتصدت لها القوات المسلحة الملكية وأسرت عددا كبيرا من الضباط والجنود الجزائريين. قال الحسن الثاني في توطئة رسالته: «لا يسرني أن أوجه إليكم هذا الخطاب، لأنه لا يرضيني أن أكون كاتبه، ولأنه لا محالة لن يبعث في نفسكم الرضا والارتياح». وبعد أن عرض إلى تفاصيل حول معركتي امغالا الأولى والثانية، أبدى استغرابه لكون الرئيس الجزائري لم يف بوعده، وأعاد تذكيره بما سبق أن التزم به، وتحديدا عندما بعث إلى الملك الحسن الثاني يقول له: «مهما كانت خلافاتنا حول مشكل الصحراء، وكيفما كانت نهاية النزاع مع إسبانيا، فإنني أتعهد لملك المغرب بألا يرى أبدا، لا جنديا جزائريا ولا عتادا عسكريا جزائريا فوق تراب الصحراء لمحاربة الشقيق المغربي». لم تف الجزائر بوعدها، وفيما بدأت معارك الحسم في الصحراء تتقدم خطوات إلى الأمام للإجهاز على آخر فصول المشروع الانفصالي، الذي دعمته الجزائر وبلدان تدور في فلك المعسكر الشرقي، ضمن تداعيات الحرب الباردة، انطلقت معارك أخرى لا تقل أهمية رفعت شعار النهوض بالتنمية في الأقاليم الجنوبية كواجهة موازية لمعركة الحسم العسكري، الذي دحر فلول الانفصاليين ومؤيديهم. تجسد رهان المغرب على الإنسان الصحراوي، كما ساكنة الشمال والشرق والغرب، في ربط التنمية بتكريس الخيار الديمقراطي، وبصرف النظر عن كل أنواع المؤاخذات حول النقائص التي شابت هذه التجربة، فإن إشراك الأقاليم الصحراوية في جميع الاستشارات البلدية والتشريعية كان خيارا صائبا، أقله أنه منح ممثلي السكان فرصة التعبير عن آرائهم وبلورة طموحاتهم الوحدوية. في خضم هذا التحول، انتخب خلي هنا ولد رشيد إلى جانب فعاليات صحراوية من مختلف الأجيال نائبا عن العيون في برلمان 1977، ثم انضم في غضون ذلك إلى التجمع الوطني للأحرار كواحد من أبرز الأطر التي صاغت تصورات الحزب ورسمت معالم طريقه. غير أن ولد الرشيد كان يحرص أكثر على تعميق الصلات مع سكان الأقاليم الجنوبية، وكان حضوره هناك أبلغ أثرا من مشاركته في أشغال البرلمان ولجانه وهياكله، فقد كان رجل ميدان بامتياز، يتسلح برؤية نافذة في عرض المشاكل والبحث عن حلولها، وكان أكثر اهتماما بالدبلوماسية الموازية، خصوصا في ظل إلمامه الكبير بملفات العلاقات المغربية الإسبانية، وكان من دعاة الانفتاح على بلدان أمريكا اللاتينية. في تلك المرحلة، كان رجل حكيم اسمه الداي ولد سيدي بابا، رئيس البرلمان والوزير السابق في الشؤون الإسلامية، يعكس صوت الحكمة والتآخي، وكان خلي هنا ولد الرشيد يشاركه الرأي في إيلاء عناية أكبر للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الأقاليم الجنوبية. تنبه الملك الحسن الثاني، يوما، إلى أن الحكومات المتعاقبة لما بعد استرجاع الأقاليم الجنوبية لا تضم شخصيات صحراوية، كان الأمر مستغربا بعض الشيء، خصوصا إذا علمنا أن الحكومات الأولى لما بعد الاستقلال ضمت وزراء مكلفين بالملف، لذلك سيتم تعيين خلي هنا ولد الرشيد كاتب دولة لدى الوزير الأول مكلفا بالشؤون الصحراوية في مارس 1979، بتزامن مع ترقية إدريس البصري وزير الداخلية واستمرار الأمين العام لحزب الاستقلال محمد بوستة على رأس الخارجية. حافظ خلي هنا ولد الرشيد على المشروع الذي كان يبشر به، واهتم أكثر بالسهر على إقامة المرافق والمنشآت، في ظل الإمكانيات المتوفرة لديه، فيما كان صبيب الموارد المالية يركز على جهود التنمية في المواصلات وجلب الماء الصالح للشرب وإقامة المستشفيات وربط أنحاء الأقاليم الجنوبية بالشبكة الكهربائية. ولم تفلح الهجمات العدائية، التي كانت تتوالى في ساحة الميدان، في إعاقة هذه المشاريع التي زادت في حجم التحديات الدفاعية الكبرى. استمر الوزير خلي هنا في مهمته على امتداد الحكومات المتعاقبة إلى نهاية تسعينيات القرن الماضي، لكنه على الصعيد الحزبي سيجد نفسه في عام 1981 أقرب إلى مناهضي قيادة أحمد عصمان في التجمع الوطني للأحرار، وسيكون ضمن رواد تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي، إلى جانب محمد أرسلان الجديدي وعبد القادر بن سليمان وأحمد بلحاج وعبد الله القادري والدكتور محمد جلال السعيد. وكان يوصف بأنه له قدرة خارقة في العمل والذكاء، فقد كان المنظر الأساسي للحزب. استهوته فكرة الانتقاص من حجم الفوارق بين المدن والبوادي، وحرص على أن يكون مدافعا على فكرة التوازن بين الفئات والجهات، لكنه في غضون ذلك ظل يركز اهتمامه على الأقاليم الجنوبية، فقد كان يدرك أنها المجال الحيوي الذي يمكن أن يتنفس فيه طويلا. والظاهر أن ما أحرجه في تغيير الانتماءات السياسية من حزب لآخر مكن بعض أفراد أسرته من أن يصبح لهم النفوذ السياسي الواسع في الإقليم. لم يكن من أنصار النزعات القبلية، لكنه كان يميل إلى ترجيح كفة انتسابه القبلي لمسايرة المنطق السائد، غير أنه لم يدخل في معارك مباشرة إلا تحت تأثير التطورات، فقد كان من بين أقرب الرجالات إلى إدريس البصري في بداياته الأولى، ثم أصبح من أشد مناهضيه في الهزيع الأخير من مساره السياسي. لم يكن من هواة ركوب الموجة، لكنه تيقن مبكرا أن الدوران في فلك الرجل القوي، آنذاك، سيحرمه من أوراق سياسية يجيد توزيعها واللعب بها في الوقت المناسب. يوم دخل الوزير السابق للأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري على خط ملف الصحراء، وجد إلى جانبه خلي هنا ولد الرشيد، الذي كان يقيس التطورات بميزان دقيق، سيجعله في نهاية المطاف يصبح رئيس المجلس الاستشاري الملكي للشؤون الصحراوية، وسيؤهله موقعه لأن يشارك في جولات المفاوضات الرسمية في مانهاتن. كان مجرد وجوده ضمن قائمة الوفد الرسمي يحرج وفد الانفصاليين، وكان أشد ما يزعجهم أن يطلق تصريحاته النارية التي يميزها الدهاء السياسي، غير أنه بين الرهانات السياسية والطموحات الشخصية، سيتحول إلى إنسان آخر. في بعض مفارقات حياته أن الفيلا الصغيرة التي كان يقطنها في أكدال، تحولت إلى فندق، لكن المشكل أن ذلك الفندق لم يحز على ترخيص رغم اكتمال بنايته منذ سنوات. كذلك هي مشروعاته السياسية التي رغب أن ينفذها أحيانا دون الحصول على ترخيص شرعي.