مرت استراتيجية الحرب بالوكالة بمراحل متتابعة في بلداننا العربية، فقد بدأت بخلفيات دولية: كحرب غير مباشرة بين الأمريكيين والسوفيات، ثم تعربت مع انتصار أمريكا النسبي في عقب الهزيمة التي حلت بالعرب في يونيو من عام 1967، وهي اليوم متعددة الأطراف: عربية/عربية، وإيرانية/عربية، وأمريكية/إيرانية، وأمريكية/عربية. في السنوات الأخيرة، بلغت درجة من العمومية صار المرء يخشى معها أن تنشب في كل مدينة وقرية وحي وبيت عندنا. والحرب بالوكالة مصطلح يصف امتناع قوى متعادية عن خوض حرب مباشرة بين جيوشها، وقيامها بتكليف جيوش بلدان أو قوى أخرى بشن هذه الحرب، فهي إذن حرب بالواسطة، غير مباشرة، بين قوى لا تستطيع أو لا تريد خوض قتال مباشر بين جيوشها، وحرب مباشرة بين أدواتهم وأتباعهم في الدول المتحاربة. وقديما، قدم جنرال بروسي كاره للحرب تعريفا طريفا وعميقا لها، عندما قال: الحرب فعل عنيف يقتتل خلاله أناس لا يعرفون بعضهم ولا عداوة بينهم، لمصلحة أناس يعرفون بعضهم جيدا وبينهم عداوة راسخة. في الحرب غير المباشرة، الحرب بالواسطة، يقتتل بالفعل أناس ليس ثمة مسوغات كافية لنشوب الحرب بينهم، لمصلحة آخرين، هم في منطقتنا قوى خارجية أساسا، لا حل لمشكلاتهم بغير العنف والقتل: بالحرب التي نخوضها بأمر منهم. لعل أكثر أشكال الحروب بالواسطة هي الحرب التي شنتها الصهيونية على العرب بعد استيلائها على فلسطين عام 1948، ومرت في طورين: - حرب غربية/أمريكية بدرجات متفاوتة، استهدفت العرب، استخدم لخوضها جيش صهيوني/يهودي قام بالمهمة المطلوبة، محققا جملة أغراض استراتيجية مرسومة بدقة، وهدفا صهيونيا مباشرا وخاصا هو إقامة دولة يهودية في فلسطين، تذرع مؤسسوها بحق إلهي ترتب عن وعد إلهي ما، لكن مستشار الشؤون الاقتصادية لدى رئيس وزراء الصهاينة الحالي، نتنياهو، قال قبل أيام كلاما فائق الخطورة وكاشفا حول الهدف من إقامة الكيان الإسرائيلي، عندما صرح في «مؤتمر الطاقة والأعمال لعام 2010»، الذي عقد خلال يومي 21 و22 من شهر أكتوبر الجاري، محذرا قومه من أن «بقاء إسرائيل مرتبط ببقاء سعر النفط تحت حد معين، وإلا عنى ارتفاعه فوق هذا الحد أن بقاءها لن يكون مجديا للعالم»! (لا حق ولا وعد إلهيا ولا هم يحزنون بل نفط غربي وكلاب حراسة للنفط الغربي). بهزيمة العرب في هذه الحرب، وتقرب بعضهم من المعسكر الآخر، المعادي للرأسمالية الغربية، كما مثله السوفيات، بدأت: - حرب غير مباشرة: غربية/سوفياتية، طرفاها المباشران الصهاينة والعرب. لا ينفي هذا، بطبيعة الحال، أن الطرف الفلسطيني/العربي لم يحارب نيابة عن السوفيات، بل قاتل خلال الساعات القليلة التي قاتل فيها! دفاعا عن نفسه ضد هجوم الغرب وأمريكا المتواصل عليه بواسطة الجيش الإسرائيلي، وأن السوفيات دعموه في إطار صراعهم الكوني مع الرأسمالية وليس لأنهم أرادوا إزالة إسرائيل أو كسر شوكة أمريكا. لقد حاولوا امتصاص بعض فائض القوة الأمريكي، وعملوا على إزعاج أمريكا في الشرق الأوسط، منطقة النفط، وعلى الحد من خطورة هزائم العرب عليهم وعلى نظامهم، ورسموا لأنفسهم دورا يفيد من قدرات العرب في الصراع الدولي، دون أن يكلفوا العرب بالقتال نيابة عنهم أو لصالحهم. بالمقابل، واصلت إسرائيل لعب دورها الكامل كطرف يخوض حربا بالوساطة لمصلحة أمريكا وبتكليف منها، وتحت إشرافها المباشر في أحيان كثيرة، كما كان الحال قبل وخلال حرب يونيو، وحتى اليوم. مع هزيمة يونيو، وقع تحول نوعي في الصراع الإسرائيلي ضد العرب (لم أؤمن في حياتي للحظة واحدة بوجود صراع عربي ضد إسرائيل: لو صارع العرب إسرائيل حقا، لما كانت هناك اليوم إسرائيل!)، فقد انتقل العرب منذ أواسط السبعينيات إلى تجفيف وتجميد صراعهم مع إسرائيل، وافتتاح مرحلة صراعات وحروب عربية/عربية مدعومة من أطراف دولية متناقضة، انطوت معها صفحة القدر الزهيد جدا من صراعهم، الإعلامي والكلامي أساسا، ضد إسرائيل، دون أن تطوي ولو ليوم واحد صفحة الصراع الإسرائيلي ضدهم أو تتغير وظيفته الأصلية: فرض رقابة وثيقة، عبر القوة والردع، بصور مباشرة وغير مباشرة، على المنطقة المجاورة وإركاعها، مع التمسك بالاحتلال وسيلة لإركاعها. في هذه الحقبة، التي تغطي اليوم معظم بلداننا العربية، خاضت البلدان والدول والنظم والإمارات والدويلات والدساكر العربية حربا غير مباشرة، بالواسطة، لأسباب وذرائع تافهة تتصل غالبا بالغنائم والنفوذ، استخدمت فيها قوى محلية تكلفت بعمليات القتل المنظم والعشوائي في مناطقها، بعد أن تلقت من «الأشقاء» كل ما يلزم للذبح والإبادة من أسلحة وأموال ومقاتلين. ومن يراقب اليوم «الوطن العربي» سيصاب بالذهول مما سيراه من عداء مستحكم بين أبناء قوم يقال إنهم إخوة وينتمون إلى أمة واحدة أو مجتمع واحد، وسيرى انقسامهم واستعدادهم للقتال في كل مدينة وحي وقرية، وسيقف حائرا أمام انتشار هذه الحرب الزماني والمكاني، وحماسة النظم للانخراط فيها، وإيمان مواطنيها أن الآخر، الجار والقريب، هو العدو وأن لا نجاة لهم بغير إبادته، في حين تحول الأعداء والمحتلون إما إلى وسطاء بين المتقاتلين أو انخرطوا في القتال إلى جانب هذا الطرف أو ذاك أو بين الأطراف جميعها، فهم مع الجميع وضد الجميع في آن معا، ولا شيء يثير اهتمامهم قدر استمرار الحرب المستعرة واتساع نطاقها وإطاحتها بما بقي من أواصر طبيعية وعادية بين العرب: أمة ودولا وأفرادا. في المرحلة الأخيرة، أي في أيامنا الراهنة، دخلت القوى الإقليمية على خط الحروب بالواسطة، فصرنا أوفر شعوب الأرض ثراء بالعنف المتبادل، الذي يشمل الآن حروب الغرب: المباشرة وغير المباشرة، وحروب العرب: المباشرة وبالواسطة، وحروب القوى الإقليمية، دون أن ننسى طبعا الحروب الداخلية الدائرة أو المرشحة للانفجار على طول العالم العربي وعرضه، وتعد بدورها حروبا بالواسطة، ستكون طويلة وقابلة للتوسع وبلا حدود، كما تخبرنا بذلك تجربة العراق والصومال واليمن، وقريبا السودان ولبنان، ناهيك عن فلسطين. عندما تجد نظم الحكم الشرعية نفسها في مواجهة خطر الحرب بالواسطة، فإنها تسعى إلى: - توحيد صفوفها والمسارعة إلى حل خلافاتها، كي تضيق أو تلغي قدرة خصومها وأعدائها على الإفادة مما يمكن أن يثور بينها من أزمات أو مشكلات، تمكن الآخرين من إثارة الحرب بينها. - تحصين داخلها ضد أي اختراق خارجي، وإزالة نقاط الضعف التي يمكّن استغلالُها الخارجَ من إثارة وتأجيج التناقضات بين مواطنيها، وتاليا دفعهم إلى ارتكاب أعمال عنف بعضهم ضد بعض، قد تنتهي إلى حرب يتدخل فيها ويديرها ويفيد منها الآخرون. - العمل من خلال الهيئات والمنظمات والقوانين الدولية، وبواسطة تحالفات خارجية وإقليمية، على تقييد يد الخارج ومنعه من التدخل في الشأن الخاص، وجعل ثمن تدخله باهظا ورادعا بالنسبة إليه. لم تقصر نظمنا، غير الشرعية، في تفتيت صفوف دولها على النطاق القومي، وفي العمل بعضها ضد بعض لصالح أعدائها في الداخل والخارج، وإنما امتنعت أيضا بعناد جنوني عن إصلاح أوضاعها وإزالة ما فيها من نقاط ضعف يمكن أن تنقلب إلى اختراقات محتملة. وبدل أن تلجأ إلى القانون الدولي والمنظمات الشرعية العالمية، لجأ كل واحد منها إلى الدول المعادية واستقوى بها على النظم «الشقيقة» وشعوبها. لا أظنني بحاجة إلى أمثلة، فهي أكثر من الهم على القلب، ويعرفها كل مواطن، مهما كان عازفا عن السياسة. والآن: هل يمكن أن يقول عاقل بفشل أمريكا في إثارة الفوضى عندنا، إذا كنا نخوض كل هذه الحروب مباشرة وبالواسطة، وكان كل من هب ودب من جيراننا الأقربين وأعدائنا الأبعدين يستطيع متى شاء إثارة الفتن والمشكلات والحروب عندنا؟ وكان نمط «اللانظام» العربي السائد حصينا ضد العلاقات الطبيعية بين دوله وشعوبه، وضد المصالحة مع الدول والمجتمعات العربية، ومصفحا ضد الشرعية وتطبيق القانون: دوليا كان أم وطنيا أم محليا؟ أليس وجود هذا الكم من الخلافات والتناقضات والحروب المباشرة وغير المباشرة دليلا دامغا على سقوط النظام السابق إلى حضيض «اللانظام» الحالي؟ أخيرا: هل لهذا «اللانظام» أي أسم آخر يصفه ويليق به غير الفوضى، خلاقة كانت، أي من صنع أمريكا، أم غير خلاقة، أي من صنعه هو؟