لم يكن يخطر ببال الواحد والعشرين شابا المنتمين إلى الجنوب المغربي، وهم يجتمعون بالزويرات في ماي 1973 لتأسيس حركتهم، أن مطالبهم حول الجلاء الإسباني ستتحول إلى قضية حيوية بالنسبة إلى الجزائر يتقاطع فيها الاستراتيجي والإيديولوجي. وبالفعل، فقد تمكنت الجزائر من تحويل أهداف هذه الحركة إلى المطالبة بتقرير المصير منذ وفاة مصطفى الوالي، متزعم الحركة، في يونيو 1976 في ظروف غامضة. وقد كانت تعي بأن تنفيذ أجندتها في الصحراء لا يمكن أن يتحقق إلا بفضل زعيم للحركة يتوفر على مواصفات خاصة. ومن أجل ذلك، تم تنصيب المسمى محمد عبد العزيز لتولي قيادة البوليساريو رغم ضعف روابطه بالصحراء، ورغم أنه لم يكن من المؤسسين، ولم يكن له حضور قوي بين زملائه. ومنذ ذلك الوقت، انحرفت الجبهة عن مسارها وأصبحت بمثابة مصلحة تابعة للمخابرات العسكرية الجزائرية. وقد أدى هذا الانحراف تدريجيا إلى اتساع دائرة المعارضة لقيادة البوليساريو. وبالرغم من كون هذه المعارضة لازالت متفككة، فإنها تشكل نزيفا حقيقيا في صفوف هذه القيادة وتضعها أمام مأزق خطير، خاصة أمام تبدد الحلم الانفصالي وعدم القدرة على التخلص من السيطرة الجزائرية للانخراط الإيجابي في التفاوض من أجل تسوية متوافق عليها تراعي بالدرجة الأولى مصالح سكان الصحراء. من خط الشهيد إلى مصطفى سلمى.. أدى انحراف قيادة البوليساريو منذ تنصيبها من طرف الجزائر عن الأهداف المحددة من طرف المؤسسين إلى تسرب الإحباط واليأس إلى صفوف أغلب هؤلاء. وقد تزايدت حدة هذا الشعور أمام تدهور الوضع الاجتماعي والإنساني وانسداد الأفق، فانفجرت شرارة الغضب الأولى في انتفاضة 1988. وقد تنامى التيار المعارض بكيفية تدريجية أمام قمع الحركات الاحتجاجية وممارسة التعذيب والاعتقالات في عدة سجون أقيمت لهذه الغاية (سجن الرشيد، سجن الذهبية، السجن القريب من الرابوني والسجن القريب من مخيم السمارة وأماكن أخرى سرية للاختطاف والتعذيب)، بل بفعل الممارسات القمعية تحولت المخيمات إلى سجن مفتوح، وهو ما يتناقض مع أهداف جبهة تناضل «من أجل تقرير المصير». وأمام الحصار المضروب على المخيمات واستحالة ممارسة المعارضة بكيفية علنية، وجد عدد من المؤسسين للجبهة في نداء المغفور له الحسن الثاني «إن الوطن غفور رحيم» فرصة للخروج من وضعية الاحتقان والالتحاق بالمغرب، منهم محمد العظمي ونور الدين بلالي ومصطفى البرزاني والبشير الدخيل وغيرهم. فعودة هؤلاء إلى وطنهم الأصلي لم تترجم فقط التعبير عن استياء الجناح المعارض داخل قيادة البوليساريو، وإنما كذلك رفض توظيف جبهتهم في خدمة المصالح الجيوستراتيجية للجزائر تجاه المغرب. لكن رغم تصدع قيادة البوليساريو بسبب العودة المتوالية لأعضائها إلى المغرب، فإن معارضة هؤلاء بقيت محدودة التأثير لعدم تعبئتهم من أجل ممارسة معارضة منتظمة واقتصار أغلبهم على التعبير عن مواقفه بكيفية فردية عبر بيانات أو لقاءات صحفية، وهو ما خفف الضغط على قيادة البوليساريو وسمح لها بالاستمرار في قمع وتصفية كل من شككت في نواياه تجاه الطرح الانفصالي. فقد كان بإمكان هؤلاء القياديين -من إبراهيم حكيم، وزير الخارجية في الجمهورية المزعومة (وهو الذي قام، بدعم من الدبلوماسية الجزائرية، بدور كبير في اعتراف عدد من الدول الإفريقية بهذا الكيان)، إلى أحمدو ولد اسويلم، مستشار لدى الرئاسة- أن يشكلوا تيارا معارضا لمحمد عبد العزيز ومجموعته، وكان بإمكان هذا التيار العمل على تغيير مسار الأحداث لكون أغلب هؤلاء القياديين كانوا يشكلون جناحا سياسيا وقبليا متماسكا، فضلا عن كونهم من المؤسسين للجبهة، ومن ثم فهم على الأقل يحظون بالشرعية التاريخية للتقرير في مصير هذه الجبهة، خلافا لخصومهم الذين احتكروا السلطة بدعم جزائري واستمروا في ترويج أنهم بمفردهم يتوفرون على صفة الممثل الوحيد للشعب الصحراوي ويتهمون الآخرين بالعمالة والخيانة. وهكذا، لم يتأسس تيار معارض إلا سنة 2003 تحت اسم «خط الشهيد» بقيادة المحجوب سالم. ولئن كان هذا الأخير يقيم في بلباو بإسبانيا، فإن تياره تمكن من الانتشار داخل المخيمات، وأغلب أطره من الطلبة الذين تلقوا تكوينهم بالخارج خاصة بكوبا. ويركز هذا التيار على اتهام قيادة البوليساريو بخيانة المبادئ التي قامت عليها الجبهة، ويرفض أية علاقة بالجزائر، ويرى أن تسوية مشكل الصحراء تمر عبر القناة الإسبانية وليس عبر الجزائر. لكن هذا التيار لم يتمكن من عقد مؤتمره التأسيسي بالمخيمات كما كان مقررا في فبراير 2006. ومنذ ذلك الوقت، تم الاقتصار على إصدار البيانات والمنشورات التي تتضمن من وقت إلى آخر مواقف هذا التيار وتجديد انتقاداته للقيادة بالمخيمات، ونتيجة لذلك تبقى تأثيراته محدودة ولا تؤدي إلى الضغط اللازم لابتعاده عن المخيمات وعدم قدرته على صنع الحدث في الميدان الذي من شأنه أن يلهب حماس الأفراد ويسمح بتفاعلهم مع الخط المعارض ويحظى، بالتالي، باهتمام وسائل الإعلام. وتقدم تجربة ولد سلمى نموذجا فريدا للمعارضة في تاريخ المخيمات لكونها خرجت عما هو مألوف لتدشن مسارا جديدا للمعارضة بنقل ممارستها إلى داخل المخيمات رغم ما يحف ذلك من مخاطر، لكن المعني بالأمر ضحى بمنصبه وتصدى بشجاعة وجرأة لكل التهديدات وأصر على العودة إلى التعبير عن آرائه. وإذا كان يواجه محنة خطيرة منذ اختطافه وخضوعه لكل أشكال التعذيب والتنكيل ويبقى مصيره مجهولا، فإن ذلك كان منتظرا من مليشيات البوليساريو والمخابرات الجزائرية التي اعتادت على مثل هذه الممارسات، كما أنها وجدت نفسها لأول مرة أمام حالة غريبة لم تألفها، وهي -في اعتقادها- حالة شاذة تستحق العقاب. والواقع أنه أمام ضغط وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية، وجدت البوليساريو -ومعها الجزائر- نفسها أمام ورطة حقيقية بل توجد في حيرة من أمرها حول معالجة الأزمة التي سببها اعتقال مصطفى سلمى. لذلك حاولت التمويه بإصدار بلاغ كاذب حول قرار الإفراج عنه، مما يعكس حالة الارتباك وعدم القدرة على الصمود أمام الضغوط. وكيفما كان مصير مصطفى سلمى، فإنه تمكن، بفعل نضاله، من تكسير أوهام الترهيب والخوف من الاضطهاد السائدة في المخيمات عن طريق المطالبة بالحق في حرية التنقل وحرية التعبير. فلماذا لا يحذو خط الشهيد والتيارات المعارضة الأخرى حذو مصطفى سلمى عن طريق نقل المعارضة إلى داخل المخيمات؟ وهي نفس القناعة التي عبر عنها عدد من شيوخ القبائل ومجموعة من العائدين أثناء مشاركتهم في ندوة بالداخلة خلال الأسبوع المنصرم. حقائق تهدد استمرار قيادة البوليساريو إذا كان من المنتظر أن يُحدث اتساع نطاق المعارضة بالمخيمات رجات شعبية عبر الانتفاضة ضد الحصار والاحتجاز، فإن قيادة البوليساريو أصبحت تواجه ثلاث حقائق تتكامل في ما بينها لتشكل مأزقا خطيرا يهدد استمرارها: تتجلى الحقيقة الأولى في استمرار موجات المغادرين للمخيمات في اتجاه المغرب بكيفية ملفتة للانتباه تدفع البعض إلى التشكيك في النوايا الحقيقية لهؤلاء. إلى ذلك، يضاف نزوح أعداد مهمة من الشباب إلى إسبانيا منذ إعلان هذه الأخيرة عن قانون منح الجنسية لسكان الصحراء وفتحها لمكاتب خاصة لهذا الغرض في كل من موريتانيا وجزر الخالدات. ويؤدي تزايد أعداد المغادرين للمخيمات إلى نزيف داخلي مستمر يتقلص معه عدد المقيمين في هذه الأخيرة بكيفية مقلقة لقيادة البوليساريو ويجعلها تستمر في رفض تقديم إحصائيات حقيقية عن هؤلاء. أما الحقيقة الثانية فتتعلق بفقدان قيادة البوليساريو مصداقيتها بعد 35 سنة من احتكار السلطة أمام تطلعات الشباب إلى التغيير والتجديد. فمن المؤكد أن هذه القيادة أصبحت غير قادرة على إقناعه وكسب ثقته لعجزها عن إعطائه آمالا جديدة لتحقيق طموحاته، لذلك فإن أغلب الشباب يغادرون المخيمات لتحسين أوضاعهم، في حين يرتمي البعض الآخر في أحضان التطرف والجريمة المنظمة. وأما الحقيقة الثالثة فتتمثل في ضلوع قيادة البوليساريو في أعمال إرهابية في منطقة الساحل من خلال تجنيد مقاتليها في المجموعات الإرهابية، وهو ما كشفت عنه مجموعة من التقارير الدولية. ونظرا إلى ما تؤدي إليه هذه الأعمال من تهديد للاستقرار في المنطقة، فإنها أصبحت تستأثر باهتمام دولي متزايد. ويندرج في هذا الإطار اجتماع مجموعة الثمانية بمالي الأسبوع الماضي في غياب الجزائر التي رفضت المشاركة في هذا اللقاء لأسباب غير واضحة. ومن شأن هذا الاهتمام الدولي أن يؤدي إلى تدابير لمحاربة الإرهاب في المنطقة قد تستهدف قيادة البوليساريو ولا تروق للجزائر. وهكذا تتكامل هذه الحقائق في ما بينها لتهدد قيادة البوليساريو بالانهيار في أي وقت، وهو خطر يضعها في حرج كبير لعدم توفرها على حرية القرار ولعدم قدرتها على التخلص من السيطرة الجزائرية لتتخذ القرار المناسب لتجنب هذا الخطر قبل فوات الأوان. وتشكل هذه الحقائق نقطة ضعف هذه القيادة، ينبغي للتيارات المعارضة الاشتغال عليها لتكثيف الضغط محليا وإقليميا ودوليا للتعجيل بتلاشي خرافة التمثيل الشرعي «للشعب الصحراوي» ولفتح المخيمات لكل الفئات التي غادرتها لأي سبب من الأسباب ضمانا لحرية التنقل وممارسة المعارضة بكيفية علنية دون قيود أو مضايقات ضمانا لحرية التعبير. وبتحقيق هذه المكاسب، تتحقق أغراض المعارضة ويتحقق، بالتالي، رهان تقرير مصير المقيمين في المخيمات بما يكفل لهم مستقبلا أفضل.