بمجرد نشر خبر مثول عمدة الدارالبيضاء محمد ساجد أمام الوكيل العام للمجلس الأعلى للحسابات رفقة محاميه، سارع سعادة العمدة، الذي تعود أن يحسب لوحده، إلى جمع كل موظفي مجلس المدينة لكي يطلب منهم إعطاءه أجوبة عن حوالي مائة سؤال ينتظر الوكيل العام للمجلس التوصل بها. وقد استغرب الموظفون كيف أن العمدة يريد أن يبرد «غدايد» الاستدعاء فيهم رغم أنه لم يكن يستشيرهم في أي أمر من أمور المجلس. فيبدو أن العمدة فهم أن «النغمة» تغيرت هذه الأيام، وأن محاسبي المجلس الأعلى للحسابات، الذين كانوا في الولاية السابقة يحققون فقط في توقيعات نوابه، أصبحوا خلال الولاية الحالية يحققون في توقيعاته هو أيضا. ولذلك فالعمدة ساجد أصبحت تنطبق عليه المقولة الشعبية «اللي دارها بيديه يفكها بسنيه». وعوض أن يفكها ساجد بأسنانه، فضل أن يرمي الكرة في مرمى موظفيه. عادة «تبراد غدايد» الموظفين الكبار في الموظفين الصغار عادة مغربية بامتياز. فعندما كتبنا في هذا المكان، قبل ثلاثة أشهر، عن والي وجدة «الهمام» الذي حط على المنطقة الشرقية بالمظلة بعد أن ساهم في إغلاق مصنع بالدارالبيضاء وتشريد ألف من مستخدميه وبعد سنوات قضاها على رأس «الباطوار» في الدارالبيضاء وإدارة «سوق الجملة»، سارع الوالي «الهمام» إلى الشك في أحد معاونيه بديوانه، وبدأ يستعد لطرده بتهمة تسريب الأخبار إلى الصحافة. ومع أن كل الأخبار التي أوردناها صحيحة مائة في المائة، والدليل على ذلك أنه لم يتجرأ على تكذيب سطر واحد منها، فإنه حاول الانتقام من كل من شك في كونه أحد المصادر التي سربت تفاصيل سيرته الذاتية التي حاولت وكالة بوزردة للأنباء التعتيم عليها ما أمكن، خصوصا منها مرور «الهمام» بأروقة «الباطوار» و«مارشي كريو» وشركة «إيكوماي» التي كان «الهمام» يخيط ويفصل بآلاتها طيلة ست عشرة سنة «كوستيمات» من ماركة «فانغيلز» التي تمتلك حقوق استغلال اسمها في المغرب عائلة بنيعيش، مثلما تمتلك حقوق استغلال سلسلة مطاعم «لونوطر» وماركات عالمية أخرى. المهم أن سعادة الوالي «الهمام» عندما فشل في معرفة المكان الذي جاءته منه «الدقة»، التفت يمينا وشمالا فلم يعثر سوى على موظف بسيط جعله يدفع الثمن. والشيء نفسه قام به الكولونيل بنزيان الحاكم بأمره في المقر المركزي للوقاية المدنية بالرباط. فبعدما بلع لسانه وهو يقرأ سلسلة الفضائح التي نشرناها في هذا العمود حول الأطر المرتشية التي يرقيها في سلم المسؤولية، والأطر الجيدة التي يحتقرها ويهمشها ويعاقبها، ثارت ثائرته ولم يجد من حل يطفئ به العزة التي أخذته بالإثم سوى إصدار أوامره لكل رجال الوقاية المدنية بأن يضيفوا إلى مسؤولياتهم وظيفة جديدة هي «ضريب الجفاف» داخل الثكنات. وهكذا تحول رجال المطافئ في ثكنات القنيطرة وسلا وطنجة وغيرها إلى عمال نظافة يمسحون الزجاج ويغسلون الغرف والأروقة بالماء و«الكراطة»، فقط لأن سعادة الكولونيل، بخطته العقابية الجديدة، لا يريد أن يوفر فقط تعويضات شركة النظافة وإنما أيضا مصاريف مواد التنظيف من «جافيل» و«سانيكروا» وغيرهما. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لصالح من يوفر سعادة الكولونيل ميزانيات النظافة وموادها؟ إن ما كتبناه حول ما يجري داخل ثكنات الوقاية المدنية تحت رعاية الكولونيل بنزيان، وأمام الصمت الغريب والمطبق للجنرال اليعقوبي، يكفي ربعه في أية دولة أخرى لكي تقوم القيامة داخل هذا الجهاز، فإما أن تسقط الرؤوس داخله، وإما أن نقف أمام القضاء بتهمة نشر أخبار زائفة. لكن بما أننا في المغرب فإنه لا شيء من هذا حدث. الذي حدث هو أن رجال إطفاء بسطاء كانوا ينتظرون تعويضاتهم المتراكمة عن الساعات الإضافية منذ 18 شهرا، فاجأتهم إدارتهم العامة بعقوبات انتقامية بسبب مقال ليسوا مسؤولين عن صدوره، فحوّلتهم من رجال إطفاء إلى عمال نظافة. ولكي «يركب» سعادة الكولونيل «الخلعة» في قلوب رجال الوقاية المدنية، هدد كل من يتجرأ على اقتناء أو إحضار أو مطالعة جريدة «المساء» بأوخم العواقب، وكأن «المساء» أصبحت، في نظر الكولونيل، أحد الممنوعات التي يحظرها القانون، مع أنه هو وجنراله لا يكادان يفركان أعينهما في الصباح حتى يطلبان إحضار الجريدة، طبعا ليس حبا فيها ولكن خوفا من نشر أخبارهما على صفحاتها. وقد كان أحسن من عبر عن هذه «الخلعة» التي تركب بعض المسؤولين بسبب الصحافة هو وزير الاتصال خالد الناصري الذي قال إنهم أصبحوا يستفيقون في الصباح ويقولون «ناري علم الله آش غادي يخرج اليوم فالجورنان». في البلدان الديمقراطية يسمون هذه «الخلعة» التي تتسبب فيها الصحافة المستقلة «السلطة الرابعة»، أما عندنا فيسمونها «الضصارة» التي يجب وضع حد لها. فأغلب المسؤولين يريدون أن تظل الصحافة في منأى عن «التخوفيش» الذي يقوم به بعضهم عندما يدسون أيديهم الطويلة داخل صناديق الدولة. وعندما تغامر الصحافة بالتسلل داخل محميات هؤلاء المسؤولين وفضح تجاوزاتهم، فإنهم عوض أن يلجؤوا إلى القضاء أو إلى إصدار بيانات تكذيب، فإنهم يفضلون اللجوء إلى حل جبان هو الانتقام من موظفيهم الصغار وتحويل حياتهم إلى جحيم وتحميلهم مسؤولية انفضاح أمرهم في الصحافة. عندما كتبنا هنا قبل أسبوع عن الشركتين اللتين أسسهما الصديقان الحميمان عبد الحنين بنعلو وعلي الفاسي الفهري للاستفادة من ميزانيات مشاريع أمريكية قيمتها 29 مليون دولار لتشجيع استعمال ألواح الطاقة الشمسية منذ بداية التسعينيات، لم نر أي واحد من الشريكين يبادر إلى تكذيب الخبر أو نفيه. مع أن نشر خبر مماثل يفرض على النيابة العامة أن تفتح تحقيقا حوله. فإما أن الشركتين لم يسبق لهما أن وجدتا، وإن لم تكونا موجودتين فإنه لم يسبق لهما أن استفادتا من الميزانيتين الأمريكيتين، وبالتالي يجب متابعتنا بتهمة نشر أخبار كاذبة، وإما أن الشركتين كانتا موجودتين بالفعل واستفادتا من دولارات الأمريكيين دون أن يكون لهذه الدولارات أثر في الواقع، وبالتالي فالمتابعة يجب أن تشمل الشريكين عبد الحنين بنعلو وعلي الفاسي الفهري. وعوض أن تسير الأمور في هذا الاتجاه وتأخذ العدالة مجراها، فإن السي علي الفاسي الفهري جند مخبريه داخل المكتب الوطني للكهرباء لكي يبحثوا له عن المصدر الذي يزود «المساء» بهذه المعلومات الحساسة والخطيرة. فالسي علي لم يكفه أنه شرد وطرد أكثر الأطر الشابة تكوينا ومهارة، بل يريد أن يطرد كل من يتجرأ ويقول «اللهم إن هذا منكر» داخل المكتب الوطني للكهرباء. فمأساة هذه الأطر الشابة التي قام علي الفاسي الفهري بمجزرة حقيقية ضدها هي أنها صدقت نداء «فينكم» الذي أطلقته الاتحادية نزهة الشقروني عندما كانت وزيرة منتدبة لدى وزير الشؤون الخارجية المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج. فتركت وظائفها في أمريكا وكندا استجابة للنداء ودخلت إلى المغرب لكي تشتغل في المكتب الوطني للكهرباء، قبل أن تكتشف أن صاحبة نداء «فينكم» غادرت المغرب بعد تعيينها سفيرة في كندا. «غير هوما دخلو وهيا خرجات». وبعد سنوات من العمل الجاد والدؤوب ستجد هذه الأطر القادمة من كبريات المعاهد والجامعات الدولية نفسها غير مرغوب في وجودها داخل إدارة علي الفاسي الفهري. فخلق لها كل العراقيل الممكنة لكي «تطج» من حوله. والواقع أنه لم ينتظر طويلا لكي يرى أن جميع تلك الأطر المغربية الشابة التي جاءت من كندا وأمريكا «طجت» بالفعل، ومنها من فقد عقله، مثل حالة إحدى المهندسات اللواتي لم يستطعن تحمل «الفقصة»، فانتهت في مستشفى الأمراض العصبية بإحدى الدول الأوربية. يحدث هذا في الوقت الذي توجد لدينا فيه مؤسسة محمد الخامس للتضامن، ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، ووزير للهجرة لا يصنع غير البحث عن فرص السفر نحو أبعد العواصم العالمية لكي يمارس السياحة على حساب دافعي الضرائب. وفي الوقت الذي لدينا فيه مجلس للجالية يوجد على رأسه «يساري» سابق من يساريي السيغار والكافيار اسمه إدريس اليزمي، لا يجيد سوى تنظيم الملتقيات التافهة حول مواضيع لا تخدم مصالح الجالية بقدر ما تخدم أجندة اللوبي الفرنكوفوني الذي جاء به إلى المجلس هو و«شلة الأنس» التي يوجد على رأسها صديقه الحميم إدريس أجبالي الذي يتقاضى 50 ألف أورو دون الحديث عن تعويضات السفر والمبيت في فندق حسان الذي ينظم فيه المجلس كل «نشاطه». ورغم وجود كل هذه المؤسسات التي تعنى بشؤون الجالية، فإنه لا أحد من رؤسائها ومسيريها انتبه إلى المجزرة الرهيبة التي نفذها علي الفاسي الفهري في حق مجموعة من خيرة الأطر المغربية المهاجرة التي لبت نداء الوطن وجاءت لكي تساهم في الدفع بعجلة المغرب الجديد. فهل بمثل هذا التسيير العشوائي للمؤسسات العمومية سنشجع الأطر المغربية على العودة إلى بلادها للدفع به إلى الأمام؟ وهل سنشجعهم على القدوم بالإبقاء على مثل هؤلاء المسؤولين الجبناء الذين عوض أن يجابهوا التهم التي توجه إليهم بالحجة والدليل يفضلون الانتقام من موظفيهم الصغار وابتزازهم في خبزهم وخبز أبنائهم لإشاعة أجواء الرعب حتى يستمروا في حلب أثداء الدولة بعيدا عن الأعين؟ «الحاصول، الرجال رجال والشمايت يبقاو ديما شمايت».