تعرفنا على العوامل الاجتماعية للمذهبية، والآن سأركز كلامي على العوامل السياسية، وهي من أهم مشكلات الخلاف بين صفوف الأمة من قديم. وأذكر منها ثلاثة أسباب: المعضلة الدستورية في تاريخ الإسلام من العجيب حقا أن يكون السبب الأول لتمزق الأمة هو السياسة وكيفية تدبير شؤون الإمامة.. ومع ذلك تجد أن الفكر الإسلامي -خاصة القديم- أهمل، بعض الإهمال، دراسة هذه المشكلة وترك تنظيم الحياة السياسية وإبداع القواعد والمناهج والآليات.. اللازمة لهذه الحياة. يقول الشهرستاني: «أعظم خلاف في الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان». وقد عرف التاريخ الإسلامي نظريتين كبيرتين: الأولى، هي الخروج على الحاكم القائم، إذا لم يكن صالحا، أي الثورة. والثانية، هي طاعته ما أمكن.. ولا يكاد الفكر الإسلامي يعرف غيرهما، فاضطربت مواقفه اضطرابا شديدا وابتعد، قليلا أو كثيرا، عن المثال الإسلامي للحكم والإمامة. ومن أهم القائلين بالرأي الأول: كثير من أهل السنة والخوارج والإباضية والزيدية.. ومن القائلين بالرأي الثاني: كثير من أهل السنة والمعتزلة والمرجئة.. أما الأولون، فنحن نعرف مآل حركات الخوارج، وأنها أفسدت وما أصلحت شيئا. والزيدية مثال آخر، ودليل بارز على أن الدعوة والخروج سبيلا لتأسيس الدول وإصلاح الأوضاع.. ليس حلا مناسبا في الغالب، لذلك عرف التاريخ الزيدي كثيرا من الثورات التي قادها الطامحون ضد دول زيدية وأئمة زيدية، فضلا عن غيرهم، فكثر في التاريخ الزيدي القتل والكيد والحروب بين أبناء الأسر الشريفة الواحدة.. وما على القارئ إلا أن يأخذ أي كتاب في تاريخ دول الزيدية ليطلع عن كثب على هذه الظاهرة. وأما الرأي الثاني، فقد انتهى بإقرار الفساد والظلم.. مما زاد في تعميق جراحات الأمة، كما زاد من الفصل بين طوائفها وفرقها. وقد قدم الإمامية الاثنا عشرية حلا طريفا للمشكلة، فقد عابوا على الجمهور تعاونه مع الحكومات الإسلامية، واعتبروا ذلك ببساطة شديدة إعانة للظالمين، ونادوا بمقاطعتهم.. وفي هذا من التبسيط ما لا يخفى. ثم أيضا حرّموا الخروج تحريما شرعيا، واعتبروا جميع الثائرين، حتى لو كانت نيات بعضهم حسنة وأعمالهم مستقيمة ورغبتهم في الإصلاح صادقة: اعتبروهم جميعا طواغيت، لأن كل راية قبل خروج الإمام فهي طاغوت. ماذا نفعل إذن؟ أجاب الإمامية: ننتظر خروج المهدي، فهو صاحب الحق الوحيد في الحكم والخلافة. فإذا قلت: إن المهدي قد يتأخر ظهوره، أجابوك: لا شأن لنا ولا لك بالمهدي ووقت ظهوره، وما عليك سوى الانتظار، ولو طال آلاف السنين.. ولولا أن بعض فقهاء الطائفة الإمامية كالمرحومين النراقي في كتابه »عوائد الأيام» والخميني في كتابه »الحكومة الإسلامية» اجتهدوا في الخروج من هذا الركود الذي سجن الطائفة في قفص الانتظار حوالي ألف سنة.. لبقيت الاثنا عشرية في هذا الانتظار إلى اليوم. نعود، إذن، إلى مأزق الأمة بين الرأيين البارزين، يقول الأستاذ صبحي في شرحه: «الفرق الإسلامية بصدد هذا السؤال على رأيين متباينين: 1– السمع والطاعة للحاكم، برا كان أم فاجرا، ولو غلب الأمة بالسيف إلا أن يكون كفرا بواحا، فمن شق عصا الطاعة أو خرج فاقتلوه كائنا من كان، فإن مات أو قتل فقد مات ميتة جاهلية. 2– الخروج على الحاكم الظالم تطبيقا لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لم ينجم عن الرأي الأول إلا تتابع حكم الغلبة والجور في معظم عصور التاريخ الإسلامي حتى أصبح قيام حاكم عادل فلتة من فلتات التاريخ، كسنتي خلافة عمر بن عبد العزيز طوال الدولة الأموية التي حكمت أكثر من تسعين عاما. ولزم عن الرأي الثاني ما وجدناه من تتابع القتل على أئمة أهل البيت، فضلا عما يلزم عن الخروج من خراب. ولقد ألزم الفكر السياسي نفسه بهذه الصيغة التي قسمت الفرق إلى رأيين متباينين: خروج أم لا خروج. ولو أن مفكري السياسة في الإسلام فكروا في صيغة أخرى لوجدوا حلا للإشكال، لو أنهم فكروا في وضع قواعد تحول دون طغيان الحاكم لما اضطروا إلى القول إما بالمهادنة وإما الخروج. ولكن أحدا من مفكري الإسلام لم يخطر له على بال تحديد مدة للخلافة لا يتجاوزها خليفة ما، ولم يعرف مفكرو الإسلام تقنينا لأصول الحكم يحول دون الطغيان، وما وضعوه في ذلك كان من الضعف، مما أدى إلى الانفصام بين ما هو شرعي وما هو واقعي. أود أن أقول: إن تقييم مبدأ الخروج ينبغي أن يكون في إطار تقييم الفكر السياسي الإسلامي بوجه عام، وإن إدانته لا تعني بحال ما موافقة على المبدأ المعارض: الفتنة بتحمل ظلم الحاكم أهون من فتنة الخروج عليه إلا أن يكون كفرا بواحا. ولقد كانت ثغرة كبرى في الفكر الإسلامي. إن السلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة إلا من عصم الله وقليل ما هم، وإن دينا يجعل الإجماع مصدرا للتشريع كان أولى برجاله أن يجعلوا رأي الأمة ملزما ومقيدا لسلطة الحاكم، وأن تُقنن من أجل ذلك القوانين وتشرع التشريعات حتى لا يحصر الفكر السياسي في الإسلام نفسه في أحد بديلين كلاهما مرفوض: خروج أو لا خروج.» الطموح السياسي واستغلال اسم آل البيت فمن أنصار الدعوة الإسماعيلية ودولتها الفاطمية هذه الجماعة من البشر التي ملأت قلبَها شهوةُ الحكم والسلطة، أو نار الانتقام والثأر، يقول أبو حامد: «(الصنف الثالث) طائفة لهم همم طامحة إلى العلياء، متطلعة إلى التسلط والاستيلاء، إلا أنه ليس يساعدهم الزمان، بل يقصر بهم عن الأتراب والأقران طوارق الحدثان. فهؤلاء إذا وعدوا بنيل أمانيهم وسُول لهم الظفر بأعاديهم، سارعوا إلى قبول ما يظنونه مفضيا إلى مآربهم، وسالكا إلى أوطارهم ومطالبهم، فلطالما قيل: «حُبّك الشيء يعمي ويصم»..». وقد استُغل آل البيت استغلالا بشعا من طرف أصحاب المطامح السياسية. وكان استغلالا عاما في جميع الفرق. فأما الشيعة فما أكثر ما ظهر في أوساطهم من يزعم نصرة آل البيت والانتقام للظلم النازل بهم، ودشن ذلك -كما سبق بيانه في الحلقات الأولى من هذه السلسلة- المختارُ الثقفي. وحتى حين حكمت أسر شيعية مناطق واسعة من العالم الإسلامي، فإن أكثرها لم يُرجع أمور الحكم إلى آل البيت، بل استأثر بها دونهم. لقد دخل بنو بويه بغداد، وسيطروا على مقاليد الخلافة العباسية، ولم يكن للخليفة شيء من الأمر، فأراد معز الدولة أن ينقل الخلافة إلى أبي الحسن محمد بن يحيى الزيدي، لكن حاشيته ومستشاريه قالوا له: «متى أجلست بعض العلويين خليفة، كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه». فعدل عن ذلك إلى ابتداع الخروج في عاشوراء ولطم الخدود والبكاء.. وإلى كتابة سب الصحابة على الجدران، والإصرار على الأذان بحي على خير العمل.. لكن أن يُسلم الخلافة إلى أفاضل آل البيت وصالحيهم، وقد كانوا كثرا عليهم السلام، وبذلك ينجز جوهر رسالة التشيع.. فلا. حتى العباسيون لم يبلغوا السلطة بالانقلاب على الأمويين إلا لأن دعوتهم كانت للرضا من آل محمد، فاستفادوا من ثورات الشيعة الكثيرة، والتي كانت تنتهي دائما بالفشل، لكنها كانت -مع كل فشل يحدث وأرواح تزهق ودماء تجري- تحفر تحت أركان بني أمية هوة عميقة ابتلعتهم في النهاية، فجاء بنو العباس وقطفوا الثمرة. تدخل الدول في نزاعات الفرق الإسلامية ومن أهم العوامل التي أذكت النزاع السني- الإمامي في عصرنا هذا: الحرب العراقية-الإيرانية، والتي استمرت ثماني سنين. فهذا الصراع الدموي الذي جرى أكثره في الثمانينيات صوّرته بعض الحكومات ووسائل الإعلام، وقدّمه بعض أهل العلم والرأي.. على أنه صراع بين كيان شيعي وآخر سني، بين عالم فارسي وآخر عربي. لذلك تأججت الفتنة الطائفية، وعادت الأحقاد القديمة إلى الحياة مرة أخرى. ومن المؤسف جدا أن هذه الحرب الخاطئة كانت شديدة التدمير للطرفين، فقد سقط فيها ما يفوق المليون قتيل، وضِعفهم أو أكثر من المعوّقين والمعطوبين، ومئات آلاف الأرامل، وملايين اليتامى.. ودمرت كثير من البنى التحتية، ومن المصانع والمعامل والأراضي الفلاحية والطرق والسدود.. بل في نهاية الحرب تحول النزاع إلى قصف متبادل للمدن.. فخرج من ذلك البلدان منهكين ضعيفين، لكن الخطير أيضا أن المسلمين خرجوا من الحرب بكراهية مذهبية شديدة، خاصة في المنطقة القريبة من أرض النزاع. يتبع...