عندما جاءه أحدهم ليستدين مبلغا من المال من جحا قال: هل لك في إقراضي مبلغا من المال؟ قال جحا: على شرط واحد؟ قال السائل: وما هو؟ قال جحا: أن تُقبِّل يدي. قال السائل ولكني يا شيخي أُقَبِّل يدك كل يوم. قال جحا: نعم ولكن هذه المرة على نية الدين، فحتى أسترد ديني منك يجب علي أن أقبل أقدامك. هذه القصة قد تدعو إلى الضحك حقا، ولكن ما يضحك فيها أنها تمثل الواقع بشكل مخفف. هل نروي للقارئ بعضا من هذه الحقائق المريرة؟ إذن، عليك اتباع القواعد الذهبية الخمس عشرة التالية: القاعدة الأولى: لا تدين ولا تستدين. وإن كنت ولا بد دائنا فأعط مبلغا بقيمة أو نية الصدقة والهبة. القاعدة الثانية: إذا ديَّنت فاعتبر المال في حكم المفقود، فلا تحزن عليه قط؟ وإن الإنسان لظلوم كفار.. القاعدة الثالثة: في حال عودة الدين اعتبر أن الأمر غير طبيعي وضد قانون الطبيعة. وإن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا... عفوا.. وإذا أخذ الدين حجزه مرفوعا.. القاعدة الرابعة: يجب ألا تغضب ولا تحزن على ضياع الدين، ويجب أن توطن نفسك على هذه الأمور عندما تبدأ رحلة الدين. القاعدة الخامسة: في الدين أنت تحل مشكلة للآخر، أما هو فسوف يخلق لك مشكلة، ما لم ترجع إلى القاعدة الأولى فتعتبر الدين هبة أو صدقة! القاعدة السادسة: الفرق كبير بين القواعد النظرية المذكورة أعلاه وبين تصور المعاناة، وطول الانتظار، وعشرات الاتصالات، والشعور بالمرارة في هذه الورطة، وتوغر الصدر، وانفجار العداوات، وتشنج العلاقات، وتفكك الروابط العائلية، وتدمير علاقة الأخوة التي كانت صادقة بدون مال، فلا تبقى صداقة ولا أخوة، والإحساس باليأس من جدوى الإنسان، وشحن النفس بالتجارب السلبية عن غدر الإنسان وخبثه وقلة وجدانه. القاعدة السابعة: قواعد الدين السابقة تشبه قانون نيوتن في الجاذبية، أي تزداد كثافة القواعد مع القرابة والصداقة، فكلما اقترب الدين في علاقته ازداد إرباك الدين بعلاقات طردية، فتقع العداوات بين الإخوة بل أحيانا القتل أو محاولة القتل كما واجهت العديد من الحالات في غرف الإنعاش والإسعاف؟ القاعدة الثامنة: المعاملة تكشف الدِين (بالكسر) والتقوى، وليس التدين الظاهري الذي يقود إلى الثقة فيُخْدع الإنسان. وينقل عن عمر (ر) أنه كان لا يعتمد على ثقته في الإنسان لأنه (رآه يهمهم ويدمدم في المسجد) بل على قاعدة (هل سافرت معه؟ هل عاملته بالدرهم والدينار؟)، فهذه هي المحكات الرئيسية لمعرفة معدن الإنسان ودينه الحقيقي، لأن النفس مولعة بالمال، محبة لرؤيته، هاشة باشة لمداعبته وجمعه والتمتع به. وإنه لحب الخير لشديد.. وتحبون المال حبا جما.. ويتولد عن هذه القاعدة الرئيسية بعض القواعد الفرعية، فأخذ الدين مثل أكل الحلاوة، وإرجاعه مثل نزع الروح، والذي لا يدرب نفسه ذلك التدريب الشاق على إرجاع حقوق الناس يكون أحمقَ من مستوى كبير، بخسارة ثقة الناس، وهي أكبر رأسمال يعيش عليه الإنسان. وكما قال عالم الاجتماع «ماكس فيبر»: عندما ترى العامل مرقع الثوب وهو يعمل بجد فتأكد أنه يوفي ديونه. القاعدة التاسعة: القاعدة القديمة التي كنا نسمعها عندما كنا صغارا (الدين هَمٌّ بالليل ذلٌّ في النهار) طواها الزمن وأصبحت من ملفات التاريخ العتيقة، وأصبحت الآن معكوسة، فالدائن قد تحول ليس فقط إلى مدين بل إلى متسول يستجدي دينه ويركبه الهم إذا كان المبلغ كبيرا، وصعدت إلى السطح مجموعة من القيم الجديدة، لا تخطر على قلب إبليس بذاته، حيث يعمد أحدهم إلى الاقتراض من كل شخص مَحَضه الثقة وعطف عليه، حتى لو كان من أقرب الناس إليه، فكل هذا لا قيمة له في سبيل بناء ثروة كاذبة من عرق الآخرين، حتى إذا ما اجتمع رأس المال المطلوب تمت المتاجرة والمضاربة به، فإذا ربح ألقى إلى الدائنين بين الحين والآخر، من المال الذي فاض من الرأسمال المكدس من جيوبهم، بعض الكسرات والنثارات والحطام، أما هو فأكل الدسم والعسل من الربح، ما يعيش به في بحبوحة، هو وذراريه من بعده من كدح ومال الدائنين! وإذا كان العكس فالظروف هي المسؤولة عن هذه الكارثة؟! القاعدة العاشرة: من رحلة الدين يتم التعرف على (طبائع البشر) وكيف رُكِّبت؟ وهي جديرة بالدراسة بالكشف عن الصفات الإنسانية من الجشع والطمع والمخاتلة والكذب، فليس هناك أكثر كذبا من المدين، وعدم قدرة ضبط النفس وحملها على الواجب الكريه في رد المال بعد أن دخل الجيب، فأخذه كان أشهى من العسل ورده أمر من العلقم. وفي كل مرة: تعال غدا سأعطيك، وليس من غد وليس من عطاء، وتبخر المال؟ القاعدة الحادية عشرة: يتم التورط في الدين عادة بسبب (الطمع والجشع) في الربح الموهوم، تحت زعم أرباح فلكية. وفي هذا الباب من القصص الشيء الكثير، فليحذر الذين يخالفون عن هذه القاعدة الخسارة والألم والعداوات.. القاعدة الثانية عشرة: تقول إن كل دين رُدَّ بعد عشر سنوات لم يعد ردا، بل كان قريبا من الصفر بفعل التضخم النقدي، وما بينهما بنسبته من التأخير. والقاعدة تظهر أن من يأخذ الدين جملة يعيده بالمفرق، كما حصل معي في بيت حمص مع أخلص وأقرب الناس إلي وأكثرهم ثقة وهو يؤكد نظرية الدين والاستدانة حسب الفقرة السابعة من العلاقات والقرابات، فقد بِعته البيت بنصف سعره وأرجعه إلي مكسرا عشر مرات؟ وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم؟ فصاحب الدين يعطيه سليما كاملا ويسترده مثل قطع الصحن الذي رمي به إلى الأرض فأصبح حطاما هشيما تذروه الأيام، وكان الله على كل شيء مقتدرا، وهيهات أن يلتئم صحن بعد هذا الكسر الكبير. القاعدة الثالثة عشرة: هناك حالة نفسية في علاقة الدائن والمدين بالدين، فالنفس تميل بآليات خفية عجيبة إلى نسيان الدين، وهي أمر غير متعمد، بل هي آلية خاصة خفية تعمل عليها النفس حتى بدون تدخل صاحبها، ولذا فالدائن لا ينسى دينه ورقمه، في حين أن المستدين ينسى ما عليه، يتعلق هذا خاصة بالأرقام، كما حصل معي وصديقي هاني فحكمت بيننا زوجتي بغرامة للجانبين، هو يدفع أكثر مما اعترف به، وأنا آخذ أقل مما تذكرته، ورضينا نحن الاثنين بشيء من الحسرة، هو دفع أكثر وأنا خسرت فوق ديني. هكذا تجري المقادير ما لم يروض الإنسان نفسه على قواعد أخلاقية صارمة. صدق الله فاكتبوه... ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله.. ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا.. وآية التداين هي أطول آية في القرآن، في سورة البقرة تحتل لوحدها صفحة كاملة؟! القاعدة الرابعة عشرة: إذا تدينت مالا فاعتبره ثعبانا في جيبك يجب أن تتخلص منه قبل أن يلدغك، وإذا أعطيته للآخرين فانساه فهو أريح للبال وأفضل للنفس، وإلا وطِّن نفسك على طريق طويل ممض، مليء بالمعاناة وتنغيص النفس وتعكير المزاج ووجع الرأس المزمن، فتبقى تحت الشموس وتعاشر التيوس وتفسد النفوس وتكسب العداوات بقية الحياة، والمحاكم تفك أقل النزاعات وتبقي شرها وألعنها معلقة.. مشيرة إلى فساد الإنسان وطمعه وجشعه وأقبح ما فيه.. تحبون المال حبا جما.. وإنه لحب الخير لشديد.. وإنه جزوع منوع إلا المصلين؟؟ القاعدة الخامسة عشرة: أصعب مراحل الدين عندما يحتاج الدائن ويدخل حالة عسر، ويتمنى ماله فلا يصل إليه، كما حصل معي مع أقرب الناس إلي، وكنت أبحث عن ألفي ريال فلا أجدها؟ فهو يتألم من عدم تحصيله، وهو يخاف من أن يستدين، فهو في حالة حرجة لا يحسد عليها، فإذا نجا من الحقد المزمن، كان من الصالحين بدون نزاع، والأيام تظهر أن معاملة الناس شيء مرعب بحق، أقول في معظمهم، والصالحون نادرون. ولكن أخلاق الناس لا تنكشف على حقيقتها إلا في المنعطفات الشديدة من الحزن الشديد والغضب المتأجج والفزع الأكبر أو عند الشهوة والمال، وتظهر جلية مجلجلة خاصة في الدين؟ وشخصية جحا الأسطورية التي برزت فجأة في التاريخ تروي الخبرات اليومية الموجعة، وتناقض الكلام والواقع، ولا تعني ما تقوله، أو تعني ما لا تقوله، تنزع القناع عن الثقافة المريضة المتشكلة عبر العصور. تحولت إلى التراث الشعبي، مخزن الحكمة الجماهيرية، تحاول عن طريق النكتة أن تدخل الوعي لتصحيحه بعملية جراحية من دون نزف أو رض، وتلهم الضمير كثيرا من الأفكار الإيجابية عبر ضحكة تصدر من الأعماق. جاء رجل إلى آخر يطلب دينا، قال اشتمني جيدا لأنني لن أعطيك؟ فالأفضل أن تشمني الآن من أن أشتمك لاحقا وأكثر؟ وعند الألمان لا يعطي أحد دينا لأحد ويقول البنك أمامك؟ مع هذا، فالحكمة تقول ألا نعمِّم بل أن نضع دوما استثناءات، وهي من حكمة الرحمن الرحيم، فالناس ليسوا سواء منهم من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا مادمت عليه قائما؟