لعمري إن أوربا محظوظة، ليس فقط بالنعيم والرخاء الاقتصادي وبحرية التعبير وسيادة القانون فيها، بل هي محظوظة أيضا لأن الأقدار وفرت لشعوبها ووسائل إعلامها وسياسييها وسيلة للتسلية لا مثيل لها. تُرى بماذا كانت صحف أوربا ووسائل إعلامها الأخرى ستنشغل الآن، إن لم يكن هناك مسلمون في أوربا؟ وعلى أي شيء كان سياسيو أوربا سيراهنون في كسب أصوات ناخبيهم، خاصة ونحن مقبلون على الانتخابات في شهر سبتمبر، لو لم يجلب المسلمون إليهم الحجاب والنقاب والبرقع لينصب هؤلاء السياسيون أنفسهم حماة للثقافة والحضارة الأوربية في وجوه البرابرة؟ الرئيس الفرنسي ساركوزي فجر قنبلة الموسم في خطابه حول النقاب، إذ وصفه بكونه رمزا لاستعباد المرأة، وأكد أن المجتمع الفرنسي المتحضر لن يقبل بهذا الاستعباد. وهنا في السويد، ينبغي لنا أن نتهيأ لجدل ساخن، فنحن أولا نعيش في مجتمع لا يقل تحضرا عن مجتمع ساركوزي، ونحن ثانيا، وإن كنا قريبين جدا من الانتخابات، فإن سياسيينا من اليمين واليسار ليسوا أقل تحمسا للحفاظ على الحضارة ومحاربة استعباد المرأة، ونحن ثالثا لا نختلف عن فرنسا، فقد بدأت ظاهرة النقاب تسترعي انتباهنا في شوارع مدننا، وهكذا فإن الصيف كان ساخنا عندنا حتى لو غابت الشمس وبقيت السماء غائمة وهطلت الأمطار على مدار اليوم، فالموضوع وُضع على طاولة الجدال، فمرحى! نحن، والحق يقال، بحاجة ماسة إلى الخوض في هذا الموضوع بجدية وموضوعية وبتجرد عن العواطف الدينية والهلوسات الحضارية، نحن بحاجة إلى وضع مسألة اللباس والزي في مكانها الواقعي في حياتنا الاجتماعية بعد كل هذا اللغط الذي أثير تارة عن الربطة وتارة عن الحجاب وأخرى، الآن، عن النقاب والبرقع. معنى الحجاب والنقاب مسألة الحجاب والنقاب تكتسب معنى خاصا في حالة الالتقاء والتصادم بين ثقافتين، ففي اليمن وحضرموت، مثلا، لا يناقش أحد أصلا هذا الأمر، لأن الحجاب والنقاب هناك جزء من الواقع الاجتماعي السائد والمقبول. إنهما موضوع للجدل في أوربا، حيث تلتقي وتتصادم ثقافات الأرض كلها، وطالما أن الأمر يتعلق بالتقاء أو تصادم ثقافتين، فلا غرابة أن يكون هناك اختلاف كبير وتقييمات غير موضوعية لهذه الظاهرة، شأنها شأن كل القضايا والظواهر الثقافية الأخرى، فالناس في كل ثقافة ينظرون إلى أية ظاهرة ثقافية غريبة عنهم انطلاقا من قيمهم الثقافية، لذلك ينبغي لمن تلبس الحجاب والنقاب في أوربا أن تكون مهيأة للتعرض لكمّ كبير من ردود الأفعال غير الودية، فهي متخلفة ومهانة ومستعبدة (في المقاييس الأوربية الشعبية)، تماما كما ينبغي للمرأة التي ترتدي لباسا أوربيا صيفيا أن تتقبل ما ستواجهه لو أقامت في قرية في صعيد مصر، فهي متهتكة، عديمة الحياء، مبتذلة،.. إلخ (في المقاييس الريفية الشعبية هناك)، ذلك لأن أوربا ليست أكثر تحضرا من اليمن وحضرموت وصعيد مصر، حيث يتعلق الأمر بردود الأفعال الشعبية على المظاهر الثقافية الغريبة، هذا واقع الحال. على أننا حين نبتعد عن ردود الأفعال الشعبية العفوية ونبدأ في تحليل أية ظاهرة تحليلا اجتماعيا وعلى مستوى يتطلب التحلي بالمسؤولية، فلأنه من غير المقبول أن نستخدم نفس المفردات الشعبية ونتبنى نفس الموقف الشعبي العفوي غير المدروس. هذا هو الإشكال الذي يقع فيه ساركوزي وسياسيو الانغلاق الثقافي في أوربا، ويقع فيه كذلك السياسيون الإسلاميون، أي تبني المفاهيم الشعبية واستخدام مفرداتها في سجلاتهم. من المؤكد أن السياسيين في الغرب يفعلون ذلك عمدا وعن وعي، فالمسألة عندهم تدور حول كسب عواطف وأصوات الشعب باللعب على مخاوفه وهواجسه، وبالتالي فإن استخدام المفردات الشعبية (استعباد، تخلف، مهانة)، نفسها، أسلوب مدروس، لكنهم يضيفون إلى تلك المخاوف ومفرداتها بعض «التوابل» الفلسفية الأخلاقية، فيعطونها بعدا مبالغا في خطورته، لكن من المشكوك فيه أن يكون الإسلاميون يستخدمون مفردات من قبيل التهتك، الحياء، الاحتشام، الابتذال،.. إلخ، بنفس الطريقة البراغماتية الواعية. وإنه لغريب حقا أن النخب السياسية بدلا من أن تجري أمام الشعوب وتنورها وتفتح عينيها على الحقيقة وتقودها إلى الأمام، تقف خلفها وتحاول أن تجرها إلى الوراء، إلى عصور الظلام والاحتراب الديني. وغريب أيضا أن يوضع موضوع اللباس -في أوربا، ملتقى الثقافات وموطن المفاهيم المدنية، خاصة- في إطار أخلاقي. إن مسألة الحجاب والنقاب ونقيضهما، اللباس الأوربي، لا ينبغي لها أصلا في حالة الالتقاء أو التصادم الثقافي أن تناقش، لا في إطار شعبي عفوي ولا في إطار أخلاقي، فمثل هذه الأطر ليس لها أساس جدي، وهي تكرس في الوقت نفسه الأحكام المسبقة والانغلاق الثقافي، وإن توصلنا إلى تفاهم حضاري. فساركوزي وأقرانه من ممثلي النظام الرأسمالي في كل البلدان الأوربية لن يكسبوا هذا الجدال أبدا لو ظلوا يقيمون حججهم على أن المرأة مستعبدة وكرامتها ممتهنة، لمجرد أنها ترتدي الحجاب أو النقاب، فهم أنفسهم يعرفون حق المعرفة، وقبل غيرهم، أنه ليس هناك في تاريخ البشرية نظام استعبد المرأة وامتهن كرامتها مثل ما فعل ويفعل النظام الرأسمالي الذي يخدمونه بكل قوتهم، هذا النظام، الذي لا يرضى للمرأة أن تستعبد بارتداء الحجاب والنقاب، هو نفسه الذي حول المرأة إلى سلعة تجارية، عراها حتى من ورقة التوت، وأباح إقامة أكبر صناعة تجارية في التاريخ من الفتيات الحسناوات في كل أنحاء الأرض والزج بهن في هذه الصناعة، بطريقة تفوق في وحشيتها ولاإنسانيتها ولاأخلاقياتها استغلال ثروات الشعوب من النفط والغاز؟؟ وغير ذلك. وفي الوقت نفسه لن يكسب المدافعون عن الحجاب والنقاب الجدال أيضا، إذ هم يقيمون حججهم على أن الحجاب والنقاب يحفظان كرامة المرأة وعفتها، أو أن لهما أصلا صلة حقيقية بأخلاق المرأة. الحجاب وغيره، لا يقول شيئا عن أخلاق المرأة، بل إنه ربما يقول الكثير عن أخلاق الرجل. إن الجدال في هذا سينتهي في آخر المطاف إلى إدانة الرجل باعتباره ضعيف الدين، مشكوكا في قدرته على الالتزام وعديم الخلق وسريع الانقياد لشيطان رغباته وشهواته، إن لم تساعده المرأة على أن يكون متدينا، فتحجب عنه خصلة شعر أو نظرة عين أو نعومة صوت. مسرحي- ستوكهولم