مقال البارحة يقتضي ألا نحكم بالكفر على أهل البدع، إلا ما كان من البدع المكفِّرة، وهي ترجع في أكثرها إلى الجهل بالله تعالى.. لكن بعض أهل العلم خرجوا عن هذا النظر الفقهي المرن، لظروف تاريخية تأثروا بها ولاعتبارات علمية اقتنعوا بقيمتها.. فانتهوا إلى تكفير الطائفة الإمامية بأجمعها وإخراجها عن الملة بكليتها. وهذا النظر، وإن كان نادرا في تاريخنا الإسلامي، أو قليلا بالنسبة إلى مذاهب الجمهور.. فإنه يستحق منّا تأملا خاصا ودراسة مفردة، ذلك أن هذه الفتاوى ونحوها تمثل ذروة الأزمة في العلاقة التاريخية بين السنة والشيعة، ثم إنها فتاوى وآراء أعيد إحياؤها اليوم، في هذه الظروف المتسمة بنوع من انبعاث الخلاف السني-الشيعي. ويعد الشيح نوح من أفضل نماذج هذا النظر الذي ذهب إليه بعض أهل العلم والأثر. فتوى الشيخ نوح الحنفي مما جاء فيها: «إعلم أسعدك الله أن هؤلاء الكفرة والبغاة الفجرة جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد وأنواع الفسق والزندقة والإلحاد. ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم فهو كافر مثلهم.. (لاعتبارات) منها أنهم ينكرون خلافة الشيخين، ويريدون أن يوقعوا في الدين الشين، ومنها أنهم يطولون ألسنتهم على عائشة الصديقة، ومنها أنهم يسبون الشيخين، سوّد الله وجوههم في الدارين.. فمن اتصف بواحد من هذه الأمور فهو كافر يجب قتله باتفاق الأمة، ولا تقبل توبته وإسلامه في إسقاط القتل.. فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار، تابوا أو لم يتوبوا، لأنهم إن تابوا وأسلموا قتلوا حدا على المشهور، وأجريت عليهم بعد القتل أحكام المسلمين. وإن بقوا على كفرهم وعنادهم قتلوا كفرا، وأجريت عليهم بعد القتل أحكام المشركين. ولا يجوز تركهم عليه بإعطاء الجزية ولا بأمان مؤقت ولا بأمان مؤبد.. من ردود الفقيه ابن عابدين ابن عابدين من أكبر الفقهاء الأحناف المتأخرين، وهو أيضا من آل البيت النبوي الشريف. له واحد من أهم التآليف في مسألة سب الصحابة، خاصة في الفقه الحنفي، وهو: تنبيه الولاة والحكام إلى أحكام شاتم خير الأنام، أو أحد أصحابه الكرام. وفيه تحدث عن آراء المذاهب الثلاثة -غير الحنفية- في المسألة، فنقل ما كتبه القاضي عياض وابن تيمية وابن حجر الهيتمي. ثم خصص فصلا طويلا لتحرير المذهب الحنفي في الموضوع. وهذه خلاصة البحث: لو سب أم المؤمنين عائشة الطاهرة بغير الفاحشة.. لا يكفر. أما لو قذفها فإنه يكفر كفرَ الخروج من الملة. ومن قذف غيرها من أزواج النبي الأكرم، فلا يكفر. نقل ابن عابدين عن الفتاوى التتارخانية: «لو قذف عائشة، رضي الله عنها.. كفر بالله تعالى. ولو قذف سائر نسوة النبي (ص) لا يكفر، ويستحق اللعنة». قال ابن عابدين: «قيد بقذف عائشة رضي الله عنها احترازا عن قذف غيرها من الزوجات الطاهرات.. لأن قذفها تكذيب للكتاب العزيز، بخلاف قذف غيرها.. وهذا مما اختصت به على سائر الزوجات الطاهرات». أما من أنكر صحبة أبي بكر للرسول (ص) فقد كفر، وإذا أنكر صحبة غيره لا يكفر. في التتارخانية: «لو قال: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لم يكن من الصحابة، يكفر، لأن الله تعالى سماه صاحبه، بقوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن)». وإذا كان سب الشيخين عن تأويل، ولو فاسدا، لا يكون كفرا. قال ابن عابدين: ذلك «بناء على ما هو المشهور من عدم تكفير أهل البدع، لبناء بدعتهم على شبهة دليل وتأويل. ويدل عليه ما في المختار، وشرحه المسمى بالاختيار، حيث قال: فصل: الخوارج والبغاة مسلمون، لقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما). وقال علي (ض): إخواننا بغوا علينا. وكل بدعة تخالف دليلا يوجب العلم والعمل به قطعا، فهي كفر. وكل بدعة لا تخالف ذلك، وإنما تخالف دليلا يوجب العمل ظاهرا، فهي بدعة وضلال، وليست بكفر. واتفق الأئمة على تضليل أهل البدع أجمع وتخطئتهم. وسب أحد من الصحابة وبغضه لا يكون كفرا، لكن يضلل، فإن عليا (ض) لم يُكفر شاتمه حتى لم يقتله.. ويدل على ذلك أيضا ما قاله العلامة التفتازاني في شرح العقائد، ونصه: وما وقع بينهم، أي الصحابة، من المنازعات فله محامل وتأويلات، فسبهم والطعن فيهم، إذا كان مما يخالف الأدلة القطعية فكفر، كقذف عائشة رضي الله تعالى عنها، وإلا فبدعة وفسق». النتيجة من هذه الاعتبارات، وغيرها كثير، استخلص ابن عابدين عدم كفر الشيعة. قال: «إذا علمت هذا ظهر لك أن ما مر عن الخلاصة من أن الرافضي إذا كان يسب الشيخين ويلعنهما، فهو كافر، مخالف لما في كتب المذهب من المتون والشروح الموضوعة لنقل ظاهر الرواية.. بل مخالف للإجماع على ما نقله ابن المنذر.. وإذا كان هذا في من يظهر سب جميع السلف، فكيف من يسب الشيخين فقط. فعلم أن ذلك ليس قولا لأحد من المجتهدين، وإنما هو قول حدث بعدهم. وقد مر في عبارة الفتح أنه لا عبرة بغير كلام الفقهاء المجتهدين. اللهم أن يكون المراد بما في الخلاصة أنه كافر، إذا كان سبه لهما لأجل الصحبة، أو كان مستحلا لذلك بلا شبهة تأويل، أو كان من غلاة الروافض ممن يعتقد كفر جميع الصحابة، أو ممن يعتقد التناسخ وألوهية عليّ، ونحو ذلك، أو المراد أنه كافر أي اعتقد ما هو كفر، وإن لم نحكم بكفره احتياطا، أو هو مبني على قول البعض بتكفير أهل البدع». وخلاصة هذا البحث عند أكبر متأخري الأحناف أن «الحكم بالكفر على ساب الشيخين أو غيرهما من الصحابة مطلقا قول ضعيف، لا ينبغي الإفتاء به، ولا التعويل عليه.. فإن الكفر أمر عظيم لم يتجاسر أحد من الأئمة على الحكم به إلا بالأدلة الواضحة العارية عن الشبهة». حيرة الدومينيكاني من تسامح أهل السنة وقد وقعت على خبر طريف، فأحببت أن أطلع عليه القارئ الكريم، ليعلم مقدار تسامح أهل السنة مع أكثر المخالفين، وليعلم أيضا أثر هذا التسامح في حفظ العالم الإسلامي من ظاهرة الحروب الدينية. يحكي المستشرق الألماني فان إيس عن رجل دين مسيحي زار الشرق، واسمه: ريكولدو دا مونتيكروسي، قال: «أثناء رحلته إلى الشرق في أواخر القرن الثالث عشر، نجد الراهب الدومينيكاني يعرب عن سخطه وشجبه لكون المسلمين لا يتصرفون وفق القاعدة الأخلاقية التي تؤكد أن طريق الخلاص ضيق، حيث نراه يؤكد أنه حتى حينما لا يعلن المسلمون سوى لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن ذلك وحده بالنسبة إليهم كاف لضمان النجاة، لكون المسلمين كافة يجمعون على الاعتقاد بأنه ليس على المسلم إلا النطق بالشهادة كي يضمن النجاة، حتى لو سبق له أن اقترف كل ذنوب العالمين. وعلى الرغم من كونهم قد ضبطوا في شريعتهم العديد من المحرمات، فإن مرتكب الكبائر عندهم لن يناله مع ذلك عقاب (قلتُ: اعتقاد أهل السنة أنه قد يعاقب لكن لا يخلد في النار). ولذا فإن شريعتهم يمكن أن تنعت بكونها إباحية. فإن الشيطان، بمكره وخداعه، هو الذي دبر ذلك بحيث جعل الذين لا يريدون الصعود إلى السعادة والنعيم عبر طريقها الضيق يأخذون، بالمقابل، الطريق الواسع نحو الجحيم». ويعلق فان إيس على ذلك، فيقول: «بإمكاننا التساؤل إذا لم يكن هذا الطريق الواسع في نهاية المطاف الطريق الأفضل، لأن الإسلام لم يعرف تلك الحروب الدينية، بالمعنى المحدد للكلمة، والتي حدثت في أوربا». إن هذه الروح الأبوية التي تعامل بها أهل السنة -لا أقول في جميع تاريخهم، لكن في أكثر فترات هذا التاريخ- مع الفرق الأخرى.. تنبني على هذا الأصل العظيم، أعني: الحكم بإسلام أهل القبلة والصلاة. وتنبني أيضا على هذا الشعور الذي لازم قيادات أهل السنة -من حكام وعسكريين وعلماء..- وهو أنهم بمثابة الأخ الأكبر لسائر الفرق، وأن مهمة الدفاع عن الإسلام ورفع رايته ضد الأعداء.. هي مهمتهم الأساس، بينما المخالفون بمثابة الولد الشارد: ينبغي أن يؤخذ بالرأفة والرحمة، علّه يعود يوما إلى حضن الجماعة ويدخل في عقيدتها، بل حتى لو لم يفعل، وآثر الانعزال والانفراد.. فإنه يُترك لحاله، لأن المعركة الكبرى ليست مع هؤلاء الذين يظلون رغم أنوفهم جزءا من الأمة.