عصفت بالمجتمع المسلم على طول امتداده، من المغرب إلى الهند، حركة من أجلّ الجماعات شأنا وأقواها أثرا. إنها حركة الباطنية التي قامت، في بدايتها ومطلع دعوتها، على نظام شديد السرية والكتمان، وعلى فكر يقوم على استبعاد ظاهر النصوص والشريعة، وتفسيرهما بتأويل باطني غير منضبط ولا محدد.. ولقد كانت زعامة هذه الحركة للأسرة القداحية ولدعاة تشبعوا بالفلسفة وتعاليمها. ومما زاد الطين بلة سلوك هذه الباطنية لأساليب ذكية ومنهج متفوق في عملها ودعوتها.. كانت بداية هذه الحركة بمجموعات متناثرة ومتعددة من الغلاة. وألقابها متعددة، فسموا بالتعليمية لأنهم يوجبون على الناس الأخذ عن الإمام المعصوم، والتعلم منه، لأنه وحده من يدرك العلوم. وهم السبعية إما لاعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة، وإما لقولهم: إن تدابير العالم السفلي منوطة بالكواكب السبعة. أما القرامطة فواحدة من أهم الحركات الباطنية، زعيمهم حمدان قرمط. ولا تزال العلاقة بين الإسماعيلية والقرمطية والفاطمية من المجالات التي لم يحسم فيها الخلاف بعد بين الباحثين، فهي علاقة مشكلة. ويرى المؤرخ العراقي فاروق عمر أن القرامطة جزء من الإسماعيلية، ثم خالفوهم سياسيا وعقائديا. على أن اصطلاح الباطنية يُطلق في الأكثر على الإسماعيلية، لأنهم أعظم فرقها عددا وأبلغها في عالمنا الإسلامي أثرا.. إلى حين سقوط دولهم وقلاعهم في القرنين السادس والسابع. والإسماعيلية كبرى الفرق الباطنية وأهمها، ولقبوا بالباطنية أولا لدعواهم أن لظواهر القرآن والأحاديث بواطن، تجري من الظواهر مجرى اللب من القشر، وأن مقصود الشرائع معرفة بواطنها، ثم لاتجاههم إلى التخفي عن الناس ولقولهم بالإمام المستور.
الدعوة الإسماعيلية قبل الطور الفاطمي بداية التأريخ للإسماعيلية هي الانقسام الأول الذي حدث في حياة جعفر رحمه الله بين الشيعة الإمامية. فقد تجمّع كثير من الشيعة -غلاة ومعتدلين- على جعفر الصادق في ظروف كثيرة، من أهمها قيام الخلافة في الفرع الثاني من بني هاشم: وهم بنو العباس، واستئثارهم بها دون أبناء عمومتهم.. وقد تزامن هذا مع خروج كثير من أئمة آل البيت من الحسنيين والزيديين، هذا الخروج الذي انتهى بكوارث مدمرة، فقتل بعضهم، وفرّ آخرون إلى اليمن والغرب الإسلامي والديلم.. وكان جعفر -حسب نظر الإمامية- قد نصّ على إمامة ابنه الأكبر إسماعيل من بعد موته، لكن الذي حدث هو وفاة إسماعيل في حياة أبيه، فاختلفت الإمامية حول الإمام من بعده إلى فرق كثيرة جدا. لكن معظم هذه الفروع ظلت على الهامش، محدودة الأثر، قليلة الأتباع. بينما جرى الانقسام الأهم في المنتسبين إلى جعفر رحمه الله على هذا المنوال: فرقة قالت إن الإمام هو إسماعيل، وفائدة النص عليه كون الإمامة في عقبه، لقوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)، لذا ساقوا الإمامة في ولده: محمد بن إسماعيل. وفرقة أخرى قالت: لما تيقنا من موت إسماعيل في حياة أبيه عرفنا ألا إمامة له وجعفر حي، فلما مات جعفر سقنا الإمامة إلى ولده، وهي الموسوية. وكلتا الفرقتين تورد روايات وأخبارا عن جعفر تؤيد دعواها.
دور الستر ثم كان لجعفر مولى جعله -كما قالوا- بمثابة الوصي على حفيده، عرف باسم ميمون القداح، فأخذ ينتقل بمحمد بن إسماعيل من بلد إلى بلد، ينشران الدعوة ويجمعان الأنصار. ثم قبض عليه الخليفة المنصور. وفي السجن، التقى ببعض وجوه الشيعة واتفق معهم على نشر المذهب بعد الخروج منه.. وبعد تحقق ذلك، اجتمع بإمامه محمد مرة أخرى، وذهبا إلى فلسطين، ثم قصدا سوريا وطبرستان، وهم في جميع رحلاتهم يحرصون على إخفاء شخصياتهم الحقيقية. وبذلك افتتح محمد الدور المهم الذي عرفته الإسماعيلية، وهو دور الستر، إذ الدعوة عند الإسماعيلية تمر بدورين: الستر، ثم الظهور. ولذلك كان أتباع محمد يسمونه ب: الإمام المكتوم. وقد استقر أخيرا بقرية من قرى الري بالعراق اتخذها دار هجرة لحشد الأتباع، وليبتعد عن عيون الخليفة وعن الاثني عشرية معا.. ثم ما لبث محمد بن إسماعيل أن مات، وبعد فترة قصيرة لحق به ميمون القداح. وهنا تثار قضيتان اختلف فيهما الباحثون من مستشرقين وعرب، كما اختلف فيهما مؤرخو العقائد الإسلامية وأئمة السنة من قديم: هل ترك محمد بن إسماعيل ولدا؟ ذهب أكثر الباحثين إلى أن محمدا مات ولم يعقب، وأن الأولاد الذين نسبوا إليه إنما كانوا من ولد ميمون القداح. ولهذا رفض هؤلاء انتساب الخلفاء الفاطميين إلى محمد، في حين ذهب آخرون إلى أنه أعقب وترك أولادا، كان منهم الخلفاء الفاطميون. ومن الصعوبة بمكان ترجيح شيء في هذا الخلاف، وإن كان القول بأن الخلفاء «الفاطميين» هم من نسب عبد الله بن ميمون القداح هو الأشهر في زمنهم، وعليه كان أكثر أئمة أهل السنة المعاصرين للفاطميين. وأبى هذا ابن خلدون إباء شديدا، وله كلام مفيد في المقدمة في هذه المسألة. وقد ساعد منهج الستر والتخفي على التشكيك في نسب الفاطميين، ولا شك أن للصراع الكبير الذي كان بين معسكر العباسيين والفاطميين أثرا في هذه الدعاية، والغالب على الظن أيضا أن الناس مصدَّقون في أنسابهم، كما يقول الفقهاء، والله أعلم. ما هي غاية ميمون القداح وأولاده؟ اعتبر بعض الباحثين أن غاية ميمون القداح وأبنائه من بعده هي إعادة مركز الخلافة إلى إمام من آل البيت، هو الذي اعتقدوا إمامته من أبناء إسماعيل. وقالوا: إن الآراء الغالية التي عرفوا بها راجعة إلى قيام ميمون وابنه عبد الله بتأويل الآيات القرآنية بما يتفق وعقيدتهم في الإمامة، ثم دَعْمِهِمْ ذلك بنظريات فلسفية استمدوها من اطلاعهم الواسع على النحل والفلسفات المعروفة في عصرهم... لذا اعتبر هؤلاء أن الباطنية الإسماعيلية لا تخرج في مجموعها عن دائرة الإسلام، على الأقل في زمني القداح وابنه عبد الله، وفي زمن الخلافة الفاطمية.. وبالطبع، فإن الإسماعيلية -كالإسماعيلي السوري المعاصر: مصطفى غالب- لا يرون في القداح سوى خادم مخلص للإمام، وأحد أعظم منظمي دعوته. وذهب الأكثرون من المفكرين الإسلاميين قديما وحديثا إلى أن هذه النظرية فيها كلام، وذلك نظرا إلى الشواهد التاريخية، وما عرف عن الإسماعيليين من العقيدة والممارسة. وقالوا: إن ميمون القداح وأبناءه كانت تحدوهم أغراض أخرى غير التشيع الخالص، فميمون -كما هو ثابت- فارسي، وكان يصدر في عمله عن ميول شعوبية ترمي إلى مقاومة الإسلام، وإعادة النفوذ إلى الفرس، في وقت كان فيه الشعوبيون يعتقدون أنه قد اقترب أوان ملك فارسي يعيد إليهم دولتهم وسطوتهم ويخلصهم من نفوذ العرب. ولم يكن هناك ما هو أفضل من إظهار موالاة آل البيت وحبهم مركبا يوصل إلى ذلك. ومما عضدوا به هذا النظر كون كثير من أتباع الإسماعيلية هم إما شيعة غلاة: مباركية وخطابية ومنصورية.. وإما مغرمون بالفلسفة القديمة. وإما شعوبيون حاقدون من بقايا البابكية والخرمدينية.. استواء الدعوة الإسماعيلية ثم تولى الإمامة عبد الله الوفي الذي اتخذ عبد الله بن ميمون حجة له وساعده الأيمن. وقد زاد من الاستتار والتخفي، ولاسيما أن الخليفة العباسي المأمون أحس بخطورة حركة الإسماعيلية وانتشارها الواسع.. فأخذ عبد الله ينتقل من بلد إلى بلد، حتى استقر في «السلمية» بالشام التي تحقق فيها له نجاح خاص. وهناك توفي بعد أن عين ابنه أحمد مكانه. وفي عهدي أحمد التقي وابنه الحسين الرضي -كما تلقبهما بذلك الإسماعيلية- اتخذت الدعوة شكلها الفلسفي، وتكاملت نظرياتها في كثير من القضايا، خصوصا الإمامة. وكان أحمد يحب التبشير بدعوته بنفسه، فاستمر يتنقل في بلاد الشام، وكذلك ابنه سار إلى الري وهمدان وأذربيجان واستانبول. وكان لعبد الله بن ميمون في هذه الفترة دور خطير في التمكين للدعوة، نتيجة حذقه واطلاعه الواسع على مختلف المذاهب والفلسفات السائدة في عصره. فكان له أكبر الأثر في وضع العقيدة الإسماعيلية وتأصيلها، وفي تنظيم دعوتها. ومن أعماله أيضا أنه استطاع ضم كثير من الشعوبيين والمتفلسفة والغلاة وبعض المعتزلة إلى مذهبه، كما استخدم التصوف -الفلسفي خصوصا- والسحر والشعوذة والنيرنجات لجلب العوام إليه. أما الإمام أحمد فتنسب إليه المشاركة في وضع رسائل إخوان الصفا. هكذا لم يأت دور ابنه الحسين لتصدّر الإمامة حتى كانت الدعوة منتشرة انتشارا عظيما. يتبع...