وصل في السبعينيات إلى الضاحية الشمالية من باريس، وتحديدا إلى مدينة جانفيلييه التي كانت تخومها أرضا خرابا قبل أن «تنبت» فيها في لمح البصر عمارات باسقة. حفظ عن ظهر قلب المشوار الرابط بين البيت والمعمل ولم يغامر يوما بالدفع بخطاه إلى ما وراء الجسر الفاصل بين ضفتي نهر السين. وفي طريق عودته من العمل، كان يعرج على متجر «فيليكس بوتان» الذي انقرض من المشهد فيما بعد ليترك مكانه لمتاجر مونوبري. كان يتوجه رأسا إلى الجناح المخصص للمعلبات لاقتناء علب جاهزة سلفا من عجينة اللحم والعدس أو الكفتة واللوبيا، والتي لم يكن يتطلب إعدادها سوى وقت وجيز. ولمدة ستة أشهر، تناول ولد عربية، من دون علمه، علبا بمحتويات مخصصة للكلاب! كان ذلك في ظرفية كان فيها ولد عربية، والأغلبية الساحقة من المهاجرين، يمسحون الحيطان في المهجر ويعتبرون وجودهم في أرض الغربة مجرد إقامة مؤقتة. وقد انعكس الأمر، بفعل الأمية، على نوعية ومستوى تغذيتهم التي لم تكن دائما حلالا. كما أنه لم يكن لهم الوزن الديني والاقتصادي والسياسي الكافي لفرض متطلباتهم الاستهلاكية. وبمجيء الجيل الثاني، وبخاصة الثالث، من أبناء الهجرة شهدنا تحولات هامة رافقتها ولادة «سوق إثنية» حلال بمجازر ومنتوجات ومستهلكين لهم عاداتهم وأذواقهم وتصرفاتهم. ومنذ سنة، تعرف فرنسا، التي تحتضن أكبر جالية إسلامية في أوربا، ثورة إشهارية وإعلانية للمنتوجات «حلال»، تترجم الحجم الديمغرافي للجالية وحضورها السياسي والديني الوازن بالرغم من رغبة السلطات في تهميش حضورها. فمثلا، لماذا لم يقدم وزير الداخلية والقيم على الشأن الديني والأوقاف ورئيس الجمهورية تهانيهم إلى الجالية الإسلامية بمناسبة حلول شهر رمضان؟! على أي وقبل حلول رمضان 2010، أطلقت على لوحات الإشهار في ربوع فرنسا إعلانات للإشهار لهذه الصلصة أو تلك العجينة، هذا المشروب الغازي أو ذاك الصنف من الصوصيص أو الحريرة «حلال».. إنها المرة الأولى التي تعرض فيها، عبر الملصقات العمومية واللوحات الإشهارية، «المنتوجات الإسلامية» على أنظار الفرنسيين الذين يبقى العرب والمسلمون في متخيلهم شعوبا لا تأكل سوى الكسكس في الصبح والعشي! وهكذا دخلت الماركات «حلال»، الممثلة لكبريات الشركات، في منافسة مسعورة لاستقطاب أذواق وجيوب المستهلكين. فقد نزلت منذ 2 غشت شركة «زفير»، بثقلها، في 6000 لوحة إشهارية موزعة على 150 مدينة للدعاية لمنتوجها «إيسلا ديليس». وقاربت الميزانية التي رصدتها الشركة لهذه الحملة 300.000 أورو! في العام الماضي، قامت ماركة «زكية» التابعة لمجموعة فيريكو، وهي في ملكية شركة بانزاني، بسبق إشهاري لما أطلقت أولى الصفحات الإشهارية لمنتوجاتها «حلال» على قناتي M6وTF1، فيما كان الإشهار وقفا على الإعلام التقليدي أو الكلاسيكي من نوع اليوميات التي توزع لدى الكزارة المسلمين. ودخلت على الخط الماركة الفرنسية الأولى لبيع الدجاج LDC، بتسويقها لمنتوج تحت عنوان «ريغال-حلال»، وذلك عبر حملة إشهارية ضخمة أطلقتها منذ الخامس من يوليوز عبر 1400 لوحة إشهارية. والمنافسة اليوم على أشدها بين الشركات التي تتحكم في سوق «حلال»، لأن الرهان في هذه الحال ليس المعتقد واحترام الشعائر وحسب بل هو قضية أموال ضخمة تقارب هذه السنة4,5 ملايير أورو، وذلك بزيادة 10 في المائة بالمقارنة مع السنة الماضية. وعليه، أصبح كل ما يحمل علامة «حلال»، مثله مثل منتوجات ال»بيو»، سلعة غير كاسدة. وهكذا أطلقت مطاعم «كويك» وجباتها «حلال» لتعرف تزايدا في عدد الزبناء، كما طرح في الأسواق مشروب الشامبانيا «حلال» وكبد الإوز «حلال»، وقدمت مؤخرا طائرات «إير فرانس» على متن بعض رحلاتها وجبات «حلال» إلى زبنائها العرب الأثرياء. وأخيرا وليس آخرا، دفع عبد العزيز أوراغ، وهو مغربي-هولندي بالاستفزاز إلى منتهاه لما أطلق على الأنترنيت أول «سيكس شوب»، علبة للجنس، «حلال» في اسم «الأسيرة»! و»تلخبط» الشغل إلى درجة أننا أصبحنا لا نميز فيها بين الحلال والحرام. قبل حصوله على التقاعد، تمكن ولد عربية من متابعة دروس ليلية في اللغتين الفرنسية والعربية، مكنته من القراءة والحديث والكتابة. واليوم، لما تقوده خطاه إلى أجنحة العلب المصبرة بمتاجر مونوبري، لا يتردد في أخذ علبة مشكلة من اللحم والعدس لقراءة وصفتها والوقوف بخاصة عند هذه الجملة التي تتوسط اللافتة «خاص بالكلاب» والتي كان يحملق فيها سابقا من دون أن يقشع دلالتها. ولما يتذكر أنه استهلك معجون لحم خاص بالكلاب لمدة ستة أشهر، يستولي عليه الضحك ويخاطب نفسه: «وا كيف درتي آصحيبي حتى ما وليتيش تانبح بحال لكلاب!؟».