قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... زلة لسان في حضرة السلطان حكى السلامي الشاعر قال: دخلت على عضد الدولة، فمدحته فأجزل عطيّتي من الثياب والدنانير وبين يديه حسام خرواني فرآني ألحظه، فرمى به إليّ وقال: خذه. فقلت: وكل خير عندنا من عنده. فقال عضد الدولة: ذاك أبوك! فبقيت متحيّرا لا أدري ما أراد، فجئت أستاذي فشرحت له الحال، فقال:ويحك! قد أخطأت عظيمة، لأن هذه الكلمة لأبي نوّاس يصف كلبا حيث يقول: أنعت كلبا أهله في كدّه، ،، قد سعدت جدودهم بجدّه، ،،،، وكل خير عندنا من عنده قال: فعدت متوشحا بكساء فوقفت بين يدي عضد الدولة فقال: ما بك؟ فقلت: حممت الساعة. فقال: هل تعرف سبب حمّاك؟قلت: نظرت في ديوان أبي نوّاس. فقال: لا تخف، لا بأس عليك من هذه الحمّى. فشكرته وانصرفت. السلطان جلال الدولة يكشف اللصوص روى أبو الحسن بن هلال بن المحسن الصابي في تاريخه قال: حدّثني بعض التجار، قال: كنت في المعسكر، واتفق أن ركب السلطان جلال الدولة يوما إلى الصيد على عادته، فلقيه سوادي يبكي، فقال: ما لك؟ فقال: لقيني ثلاثة غلمان أخذوا حمل بطيّخ معي وهو بضاعتي. فقال: إمض إلى المعسكر فهناك قبّة حمراء، فاقعد عندها ولا تبرح إلى آخر النهار، فأنا أرجع وأعطيك ما يغنيك. فلما عاد السلطان، قال لبعض شرّائه: قد اشتهيت بطيّخا ففتش العسكر وخيمهم على شيء منه. ففعل وأحضر البطيّخ، فقال: عند من رأيتموه؟ فقيل: في خيمة فلان الحاجب. فقال: أحضروه. فقال له: من أين هذا البطيخ؟ فقال: الغلمان جاؤوا به. فقال: أريدهم الساعة. فمضى وقد أحسّ بالشر، فهرب الغلمان خوفا من أن يقتلوا، وعاد فقال: قد هربوا لما علموا بطلب السلطان لهم. فقال: أحضروا السوادي. قال: نعم. قال: فخذه وامض مصاحبا السلامة. قال عمارة بن عقيل: قال لي ابن أبي حفصة الشاعر: أعلمت أن أمير المؤمنين _ يعني المأمون_ لا يبصر الشعر؟ فقلت من ذا يكون أفرس منه وإنّا لننشد أوّل البيت فيسبق آخره من غير أن يكون سمعه؟ قال: فإني أنشدته بيتا أجدت فيه، فلم أره تحرّك له، وهذا البيت فاسمعه: أضحى أمام الهدى المأمون منشغلا/بالدين والناس بالدنيا مشاغيل فقلت له: ما زدته على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها مسبحة، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها، وهو المطوق لها. ألا قلت كما قال عمّك جرير لعبد العزيز بن الوليد:فلا هو في الدنيا مضيّع نصيبه/ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله. عضد الدولة يحبك فخا مسموما لقطاع طرق ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه أنه بلغ إلى عضد الدولة خبر قوم من الأكراد يقطعون الطريق، ويقيمون في جبال شاقة، فلا يقدر عليهم، فاستدعى أحد التجار ودفع إليه بغلا عليه صندوقان فيهما حلوى قد شيبت بالسم، وأكثر طيبها، وأعطاه دنانير، وأمره أن يسير مع القافلة، ويظهر أن هذه هدية لإحدى نساء أمراء الأطراف. ففعل التاجر ذلك وسار أمام القافلة، فنزل القوم وأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به مع جماعتهم إلى الجبل، وبقي المسافرون عراة، فلما فتح الصندوق وجد الحلوى يضوع طيبها، ويدهش منظرها ويعجب ريحها، وعلم أنه لا يمكنه الاستبداد بها، فدعا أصحابه، فرأوا ما لم يروه أبدا قبل ذلك، فأمعنوا في الأكل عقيب مجاعة، فانقلبوا فهلكوا عن آخرهم، فبادر التجار إلى أخذ أموالهم وأمتعتهم ويلاحهم، واستردوا المأخوذ عن آخره. فلم أسمع بأعجب من هذه المكيدة، التي محت أثر العاتين وحصدت شوكة المفسدين. عضد الدولة يتحرى في ضياع أموال التاجر قدم بعض التجار من خراسان ليحج، فتأهب للحج وبقي معه ألف دينار لا يحتاج إليها، فقال: إن حملتها خاطرت بها، وإن أودعتها خفت جحد المودع. فمضى إلى الصحراء، فرأى شجرة خروع، فحفر تحتها ودفنها ولم يره أحد، ثم خرج إلى الحج وعاد، فحفر المكان فلم يجد شيئا، فجعل يبكي ويلطم وجهه، فإذا سئل عن حاله قال: الأرض سرقت مالي. فلما كثر ذلك منه قيل له: لو قصدت عضد الدولة فإن له فطنة. فقال: أو يعلم الغيب؟ فقيل له: لا بأس بقصده. فأخبره بقصّته، فجمع الأطباء وقال لهم: هل داويتم في هذه السنة أحداً بعروق الخروع؟فقال أحدهم: أنا داويت فلانا وهو من خواصّك. فقال: عليّ به. فجاء فقال له: هل تداويت هذه السنة بعروق الخروع؟ قال: نعم. قال: من جاءك به؟ قال: فلان الفرّاش. قال: عليّ به. فلما جاء قال: من أين أخذت عروق الخروع؟فقال: من المكان الفلاني. فقال: اذهب بهذا معك فأره المكان الذي أخذت منه. فذهب معه بصاحب المال إلى تلك الشجرة، وقال: من هذه الشجرة أخذت. فقال الرجل: هاهنا والله تركت مالي، فرجع إلى عضد الدولة فأخبره، فقال للفرّاش: هلمّ بالمال، فتلكأ، فأوعده وهدّده فأحضر المال. المنزل خير من مجلس الخليفة قال المأمون لعبد الله بن طاهر: أيهما أطيب مجلسي أو منزلك؟قال: ما عدلت به يا أمير المؤمنين. قال: ليس لي إلى هذا، إنما ذهبت إلى الموافقة في العيش واللذة. قال: منزلي يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟ قال: لأني فيه مالك وأنا ههنا مملوك.