عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . برع إبراهيم و زوجته خلال حرب الاستنزاف (1967/1970) في التحليل والتصنيف وتصوير المنشآت العسكرية أثناء رحلات للأسرة بالسيارة الجديدة فيات 124. يقول الابن الأصغر عادل في حديث نشرته جريدة «معاريف» الإسرائيلية في سبتمبر عام 1997: «لن أنسى ذلك اليوم الملعون من صيف 1969 طيلة حياتي، فقد استيقظت مبكراً على صوت همسات تنبعث من حجرة نوم والدي.كان أبي وأمي مستغرقين في نقاش غريب، وكانت أمي تمسك في يدها حقيبة جلدية بينما كان أبي يحاول إدخال كاميرا إلى داخلها، لم أر مثلها من قبل في ذلك الحين.كانت أمي غاية في العصبية وقالت له: «لا ليس كذلك» فأخرج أبي الكاميرا وأدخلها مرات ومرات إلى الحقيبة. جلست أنظر إليهما وهما يتناقشان، وعندما رآني أبي قال لي: «نحن ذاهبون في رحلة إلى الإسكندرية».كان والدي في غاية القلق والتوتر، وأخذ يتصبب عرقاً كلما ابتعدنا عن القاهرة، إلى أن تبلل قميصه تماماً. وكان يتبادل الكلمات مع أمي بصعوبة، وصمتنا نحن أيضاً لشعورنا أن هذه الرحلة ليست ككل رحلة. في تلك الفترة كانت هناك قواعد عسكرية ومصانع حربية كثيرة متناثرة حول الطرق الرئيسية في مصر. لم تخف السلطات شيئاً، ربما كنوع من استعراض القوة. وعندما بدأنا في الاقتراب من إحدى القواعد العسكرية أخرجت أمي الكاميرا وأمرها أبي قائلاً: «صوري.. ياللا صوري..صوري». فقالت له وأصابعها ترتعش: «سنذهب إلى الجحيم بسببك». وحركت أمي الجاكيت المعلق على النافذة وبدأت في التصوير، وامتلأت السيارة الصغيرة بصرخاتها الممزوجة بالخوف. فأجابها أبي بنفس اللهجة: «هذه نهايتنا». واستمرت أمي في احتجاجها قائلة: «سنذهب إلى السجن». وفي النهاية نظر أبي إليها بعيون متوسلة: «عدة صور أخرى.. فقط عدة صور أخرى» حاول أخي محمد أن يسأل ما الذي يحدث، لكن الرد الذي تلقاه كان «اسكت». فلم نسأل أي أسئلة أخرى بعد ذلك. عدنا للبيت سعداء في ذلك اليوم. و على الفور أغلق أبي حجرته على نفسه وبعد فترة طويلة خرج وعانق أمي وقال لها: «يا حبيبتي لقد قمت بالتقاط صور رائعة للغاية». وبكت أمي وقالت له: «إلى هنا يجب أن نشرح الأمر للأولاد». كنا ما زلنا مصدومين وغير مدركين لهذه الجلبة التي تحدث. زادت الرحلات الأسرية في أنحاء مصر بعدما أصبحت روتينا تقوم به العائلة مرتين أو ثلاثا في الأسبوع. كان أبي يصور كل شيء ويسجل الكيلو مترات التي نقطعها، لكنني لم أكن أعي عمله إلى حد الآن». عائلة بأكملها في مصيدة الجاسوسية يضيف عادل في حديثه «كانت صدمتنا حينما عاد أبي وأمي من إحدى زياراتهما إلى روما، التي كانت عديدة. كان والداي قد عادا وهما يحملان لنا الملابس الأنيقة والهدايا، وأحسست من خلال نظراتهما لبعضيهما أن هناك أمراً ما يجري الترتيب له، وعرفت الحقيقة المرة عندما أجلسني أبي قبالته، أنا وأخي محمد، وقال في حسم:«لقد مررنا أنا وأمكما بظروف صعبة جدا قبل الزواج، وزادت صعوبتها بعد مجيئكما، خاصة أنني طردت من عملي، فلم يصبح لي أي عمل آخر، فلم نكن حينها، عندما كنتم أطفالا صغارا، نملك رغيف الخبز أو حفنة ملح. أما الآن فانظروا إلى حالنا. نحن نعيش في عز ورغد ويسكن حولنا أطفال في عمركم يموتون جوعا. أما أنتم فتنعمون بكل شيء كالملوك، ولم تسألوني يوما من أين لي هذا؟ صحيح. لكنني الآن سأخبركم بالحقيقة». وهنا نادى على أمي انشراح وأخي الآخر نبيل وقال لنا: «إن عملي في الحكومة ليس هو سبب عزكم هذا، بل هناك من يحبوننا للغاية، هم الذين يرسلون لكم كل شيء.إنهم الإسرائيليون الذين أنقذونا من الجوع والفقر والضياع وأمنوا لكم ولنا مستقبلا يحسدنا عليه الجميع ممن حولنا ونعرفهم ويعرفوننا». كنت حينها في الثالثة عشرة من عمري وكان أخي نبيل يكبرني بعامين ومحمد بعام واحد . لكنني صدمت بحديث أبي وحقيقته بأنه يعمل مع اليهود، نحن الذين تربينا وكبرنا على كراهيتهم لما يفعلونه بنا وبفلسطين. لكن تربيتي في البيت أصبحت عكس ذلك، عكس تلك الحقيقة التي نهرب منها جميعا ونحاول الاستسلام والخضوع لها، فقد تربيت داخل البيت على حب إسرائيل، فالطعام الذي آكله وملابسي وألعابي التي أتلقاها... كلها من إسرائيل.هنا انخرطت الأسرة كلها في التجسس وانتقلنا إلى أحد الأحياء الراقية بالقاهرة لنسكن فيلا بمدينة نصر المعروفة ونلتحق بمدارسنا الراقية الجديدة التي لا يِؤمها سوى أبناء الأثرياء والطبقة البرجوازية، وأصبح رجال الجيش والطيارون هم الأصدقاء الجدد للعائلة، رغم حفاظ أبي على صداقاته القديمة. لقد تحولنا إلى جواسيس صغار نأتي إلى البيت محملين بكل شيء ونقوم بالحراسة من الداخل والخارج ونساعد في تحميض الأفلام. يتبع