عندما يهتم بك أحد زيادة عن اللزوم لا تملك إلا أن تشك في نواياه، خصوصا إذا كنت لا تعرفه. يحدث لك ما يسمى في القاموس المغربي ب«التناوي». ودون أن تشعر، تجد نفسك تحتاط منه وتتساءل: «علاش كيقلب هاذ خينا؟»، «فين باغي يوصل هاذ بنادم؟»... ذلك بالضبط ما يحدث للمغاربة المقيمين في الخارج عندما يعودون إلى البلاد ويجدون «الهايلالة نايضة» في المطارات والموانئ، وأشخاص لا يعرفونهم يبتسمون لهم في الملصقات والإعلانات والتلفزيون، وآخرون يعرفونهم مثل نجاة عتابو والشاب فوضيل يقولون لهم بأصوات تتطاير منها «البسالة»: «مرحبا بكم في بلادكم»... وكل الرسميين يتحدثون عنهم بنبرة تدعو إلى الريبة، ويباركون «عودتهم الميمونة» كأنهم جميعا رجعوا من الحج! هؤلاء العائدون، الذين تشبع معظمهم بثقافة الدول التي يعيش فيها، يجدون أنفسهم أمام احتفالات عتيقة، والحال أن كثيرا منهم غادروا البلاد هربا من هذه العقليات التي تغرق في البهرجة وتنسى المهم، حيث تصبغ «الطروطوارات» و«تجير» المباني ويعود الضوء إلى المصابيح المكسرة وتنبت الفواكه في الأشجار... ولو أجرينا استطلاع رأي بين هؤلاء المغاربة الذين نتذكرهم «من الصيف للصيف»، لوجدنا أنهم، في غالبيتهم الساحقة، لا يثقون في نوايا الدولة تجاههم، وأنهم مقتنعون بأن ما يعني الجهات الرسمية هو العملة الصعبة التي يجمعونها في بلدان بعيدة بعد إهدار «سطول» من العرق والكرامة على عتبات مشغلين عنصريين وبلا رحمة. هناك شيء يشبه الاحتيال في علاقتنا مع أكثر من ثلاثة ملايين مغربي شردتهم الظروف بين بلدان العالم، كأننا نستدرجهم بالإعلانات والابتسامات والحملات الرنانة كي نفرغ جيوبهم. ولا شك أن من سمى وقت رجوعهم بموسم «العبور» كان يعرف ماذا يقصد... حيت كيعبرو عليهم: كياخذو لهم الدوفيز ثم يتركونهم يتدبرون مصيرهم مع الغربة والأزمة المالية ومشاكل الأبناء ومع الهوية الدينية واللغوية، ومن حين إلى آخر يرسلون إليهم سبعة معلمين وعشرة أئمة ويغرقونهم بالوعود: فتح مراكز ثقافية، حق المشاركة السياسية،... وغيرها من الأسطوانات التي مل المهاجرون من سماعها. شهر من النفاق ومن الحفاوة المزيفة وعام من البيروقراطية على عتبات قنصليات تتوفر على كل مواصفات «المقاطعة» في سنوات السبعينيات. أن تحصل على الفيزا للولوج إلى دولة أوربية في البلاد أسهل من الحصول على عقد ازدياد في بعض القنصليات بالمهجر. أما «التنابر ما كاين غير عشرين أورو للفوق»، وتلصق على كل الوثائق: شهادة الوفاة أو الحياة أو الازدياد أو العزوبة أو الطلاق... والدفع ب«الليكيد» من فضلكم، رغم أن التعامل بالسيولة أصبح نادرا في البلدان الأوربية، فإن القنصليات تصر على ألا تتعامل مع البطائق البنكية والشيكات. عليك دائما أن تهيئ رزم النقود كأنك ذاهب إلى سوق الغنم لتشتري خروف العيد. ودائما يطلبون منك نسخا من وثائق لا تطلب في المغرب، فقط كي يشغلوا «الفوطوكوبي» التي تلتهم الصرف بلا توقف، كما الحال في قنصلية باريس «اللي ما بقيناش عارفين واش قنصلية ولا محل ديال التنابر والفوطوكوبي». عندما يتأمل المهاجر واقعه المرير طوال السنة، ويرى الوزارة المكلفة بشؤون الجالية ومجلس الجالية المغربية بالخارج ومؤسسة محمد الخامس للتضامن ومؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج... كلها تتزاحم كي تسهر على راحته هذه الأيام، لا يملك إلا أن يردد مع نفسه: «كاع هاذا زهر عند لفقيه»!