عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . كانت الحياة ببيروت في ذلك الوقت (يونيو 1973) لها مذاق رائع تماماً كالأطعمة المتنوعة من كل أنحاء الدنيا، ومع عطلة نهاية الأسبوع تزهو أجمل فتيات لبنان داخل الفنادق والأندية، يرتدين البكيني اللاصق ويتلوين تحت أشعة الشمس حول حمامات السباحة أو يلعبن الجولف والتنس ويرقصن الديسكو ويشتركن في مسابقات الجمال... وسط جو كهذا يموج بالمرح والحسن والشباب، اعتاد علي حسن سلامة أن يعيش بعض أوقاته، يرافقه أحياناً فتحي عرفات، شقيق ياسر عرفات، ورئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. ولما اختيرت جورجينا رزق ملكة جمال الكون، اختطفها سلامة وتزوجا في حدث أكثر من رائع، مما جعله مطاردا دائماً من فتيات لبنان، لكنه كان مشبعاً بكل جمال الدنيا بين يديه. ولأن المخابرات الإسرائيلية كانت تجهل صورته أو ملامحه، وفشلت كثيراً في اقتفاء أثره لاغتياله، خاصة بعد عملية ميونيخ بالذات، فقد كان المطلوب من أمينة المفتي التسلل إلى مخبئه، والحصول على قوائم بأسماء قيادات وعملاء المخابرات الفلسطينية في أوروبا، فقد كان علي حسن سلامة (الأمير الأحمر)، كما أطلقت عليه غولدا مائير، أحد مساعدي عرفات والمختص بحراسته، ثم أوكل إليه عرفات مباشرة مهمة جديدة، هي رئيس الأمن والمخابرات التابعة لمنظمة فتح وقوات الحرس الداخلي التي يطلق عليها القوة 17، وهي القوة التي أطلق عليها عرفات اسم «المنتمون إلى قيصر روما القديمة»... هكذا كانت مهمة أمينة المفتي في بيروت.. مهمة حساسة للغاية، لو استطاعت القيام بها لن تكفي كل ميادين إسرائيل لوضع تماثيلها. وفي لقاء حميم بشقتها مع مارون الحايك، سألته عن عرفات وأبي إياد والغمري وغيرهم، فأجاب بأنه يعرفهم جيداً، ولأيام طويلة ظلت تمنحه جسدها، وتنفق عليه بسخاء عندما أكد لها أنه يعرف علي حسن سلامة، بل الفندق الذي يرتاده. فاصطحبته مراراً إلى فندق كورال بيتش (شاطئ المرجان) ليدلها عليه، لكن الأيام تمر والحايك يستمتع بجسدها وبأموالها دون أن يظهر لسلامة أثر. ممرضة بلباس عسكري إسرائيلي تملكها يأس قاتم لفشلها، وفكرت كثيراً في مغادرة بيروت إلى تل أبيب تتوجها الخيبة. لكن طرأت في خيالها فكرة جديدة وأحست بتفاؤل كبير، بعدما تعرفت على ممرضة فلسطينية تدعى شميسة، تعمل في عيادة «صامد» بمخيم صبرا، فقدمتها شميسة إلى مدير العيادة، الذي أوضح لها أن العديد من الأطباء من كل دول العالم يشاركون في علاج الفلسطينيين كمتطوعين، فعرضت عليه خدماتها التطوعية، وأطلعته على شهاداتها المزورة فطلب منها الانتظار لعدة أيام ريثما يخبر رؤساءه. هؤلاء المتطوعون في شتى المؤسسات الفلسطينية يقابلهم ياسر عرفات، ويستعرض معهم المخيمات وملاجئ الأيتام والمؤسسات الصحية والهلال الأحمر وأقسام الأجهزة التعويضية والعلاج الطبيعي والمعامل المركزية وبنك الدم. هنا صادفت أمينة المفتي فرصة ذهبية للامتزاج بالفلسطينيين، وبدأت مرحلة العمل التجسسي الأوسع. ومساء 22 يوليو 1973 رن جرس التليفون بشقة أمينة المفتي، وكان على الطرف الآخر مارون الحايك، الذي أسر إليها ببضع كلمات ألجمتها، فوضعت السماعة بتوتر وأسرعت تفتح التليفزيون. صدمها المذيع وهو يعلن نبأ اعتقال ستة من رجال الموساد في موسكو، بينهم امرأة، بتهمة قتل نادل مغربي بالرصاص ظنوا أنه الفلسطيني علي حسن سلامة (كان هذا الفريق يسمى الرمح، وقد جاء خصيصا إلى موسكو لتعقب علي حسن سلامة واغتياله). ارتجت أمينة وتملكها الهلع على مصيرهاوتساءلت: لماذا يتعقبون سلامة لاغتياله بينما طلبوا مني خلاف ذلك؟. كانت اللعبة أكبر بكثير من تفكيرها، فأمور السياسة والمخابرات تتشكل وفقاً لمعايير أخرى وحسابات معقدة. ولأول مرة منذ فقدت زوجها موشيه، تشعر برغبة أكيدة في الاستمتاع بالحياة وحاجتها إلى مذاقات النشوة التي افتقدتها. وأسرعت في اليوم التالي، برفقة مارون، الى فندق «كورال بيتش»، متلهفة للالتقاء بسلامة. ولكم أخذتها المفاجأة عندما أشار صديقها ناحية حوض السباحة قائلاً لها: انظري . إنه علي حسن سلامة. كان حمام السباحة كبيراً، على شكل حذوة حصان، يحيط به مبنى أبيض اللون مكون من ثلاثة طوابق، تطل كل غرفه الخمس والتسعين على الحمام. ويفضل سلامة هذا الفندق لأنه مؤمن جيداً ويكشف المخاطر الأمنية؛ التي قد يتعرض لها. وكانت من الأمور العادية أن توجد ثلاث سيارات عسكرية حول الفندق لحماية الأمير الأحمر، حيث يقوم حراسه بتأمين موقف السيارات ومداخل الفندق وحدائقه. أما في الحجرة المطلة على حمام السباحة وهي بالدور الأرضي، فيكون سلامة دائماً بمفرده، يحمل مسدسه الأتوماتيكي المحشو، ولا يتغافل عنه أبداً. كان سلامة في ذلك الوقت في الثالثة والثلاثين من عمره، رياضي، وسيم، أنيق، يرافق جورجينا رزق ملكة جمال الكون، وهي فتاة عمرها واحد وعشرون عاماً، تنحدر من مؤسسة المال المسيحية في بيروت من أب لبناني وأم مجرية، انتخبت في السادسة عشرة من عمرها ملكة جمال لبنان، وبعد ذلك بعامين ملكة جمال العالم. وكانت الوحيدة من بلاد العرب التي دخلت مسابقة «ميامي بيتش». وهكذا أصبحت جورجينا رزق أشهر امرأة في العالم، يحلم بها كل الرجال، وكان الجميع يريد التعرف على الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل والعيون الخضراء والفم الكبير والجسد الأسطوري، حتى جيمي كارتر (حاكم ولاية جورجينا) وقبل أن يصبح رئيساً تحققت أمنيته وظهرت صورة له مع ملكة الكون، وهي ترتدي فستان السهرة الأسود عاري الأكتاف والصدر. لقد انشغلت جورجينا رزق بالفتى الوسيم مفتول العضلات ذي الجسد الرياضي الممشوق، وانشغل بها هو أيضا. وها هي أمينة داود المفتي تقف أمامه وجها لوجه بشكل لم يكن متوقعاً، حيث رتبت الموائد حول الحوض تحت المظلات الشمسية، وجلست تراقب سلامة بحذر وهو يستحم، وعلى مقربة منه وقف رجلان من حراسه ينتفخ جنباهما بالسلاح. رسمت أمينة صورته في خيالها، وداومت على زيارة «كورال بيتش» مرتين أسبوعياً بشكل منتظم. وكانت كثيراً ما تلتقي بسلامة الذي اعتاد رؤيتها وابتسامتها وجمالها البسيط الهادئ. وذات مرة وصل سلامة إلى الفندق واتجه إلى الداخل حيث حجرته، لكنه عرج فجأة على مائدة أمينة، وانحنى على ظهر المقعد المواجه في أدب وسألها عدة أسئلة، ثم سحب المقعد وجلس قبالتها أكثر من نصف ساعة. تقول أمينة في مذكراتها التي نشرت بعد ذلك: «في ذلك اليوم الحار من سبتمبر 1973، اشتقت لترطيب جسدي في حوض السباحة ب«كورال بيتش»، وبينما كنت أرفع كوب الماء البارد إلى فمي، رأيته أمامي . إنه سلامة. سرت رعشة متدفقة بأوصالي عندما جاء إلى مائدتي محيّياً. وبدأ بأن عرفني بنفسه على أنه رجل أعمال فلسطيني، ثم سألني عن نفسي.وجلس إلى مائدتي بعدما اكتشف أنني طبيبة أردنية متطوعة، ومنذ ذلك اليوم لازلت أذكر رعشة اللقاء وحديثه الرائع الذي جذبني إليه بكل كياني ومشاعري». يتبع