بعد بضعة أشهر على الدرس المصري، ها هم المغاربة من جديد أمام درس جديد اسمه الدرس الإسباني، وكلها دروس تأتي من كرة القدم ليتعلم منها الجميع. ففي نهائيات غانا كان على اللاعبين المغاربة أن يستفيدوا من اللاعبين المصريين الذين قاتلوا بشراسة من أجل الحصول على الكأس، بينما كان اللاعبون المغاربة، عوض القتال من أجل الكأس، يتراشقون بالكؤوس ويتبادلون الشتائم ويفرحون بالهزائم. اليوم، وبعد أن فازت إسبانيا بكأس أوروبا للأمم، يجد المغرب نفسه أمام درس جديد، لكنه درس لا يتعلق باللاعبين المغاربة، بل بالسياسيين، وعلى رأسهم الوزير الأول الهمام عباس الفاسي. على رأس منتخب إسبانيا يوجد مدرب هرم اسمه لويس أراغونيس، وهو رجل تساقطت أسنانه الواحد تلو الآخر على ملاعب الكرة، ولايزال مفترسا وشرسا. تم تعيين أراغونيس على رأس المنتخب الإسباني وعمره حوالي 67 عاما، وتم تعيين عباس الفاسي على رأس الحكومة الجديدة وعمره 67 عاما. الرجلان إذن في نفس السن. الفاسي عنده أحفاد، وأراغونيس عنده 11 حفيدا. أراغونيس أخذ زمام المنتخب الإسباني واختار لاعبيه واحدا واحدا، ورفض أي تدخل من أي كان حتى لو كان من الملك الذي يعشق الكرة. أراد الكثيرون أن يفرضوا عليه بعض اللاعبين، وقامت إسبانيا ولم تقعد لكي يعود لاعب ريال مدريد راوول غونزاليس إلى المنتخب، لكن أراغونيس رد بحسم بأنه لا مكان لراوول في المنتخب مهما كانت العواقب، وأن المنتخب سيلعب فيه الأكفاء واللاعبون الذين لا يتوقفون عن الجري. بعد ذلك تعرض أراغونيس لحملات إعلامية قاسية، وجعلته الصحافة الإسبانية هدفا لانتقادات لاذعة وأصبحت تسخر منه صباح مساء، لكن الرجل رد على الصحافيين بطريقة أخرى وسار بالمنتخب من دون أية خسارة، وفاز بكأس أوروبا للأمم بعد 44 عاما من أول كأس. أما عباس الفاسي، فقد تم تعيينه على رأس الحكومة، وبينما هو جالس يوما في مسجد في فاس في مناسبة رسمية، جاء أحد المقربين من الملك وسلمه ورقة عليها لائحة الوزراء، وقال له هذه هي الحكومة الجديدة التي ستلعب معها، عفوا ستحكم بها. وافق عباس وانتهى كل شيء. ما الفرق إذن بين التقدم والتخلف؟ التقدم هو أن يقاتل الشخص من أجل مبادئه وأفكاره وأن يدافع عن اختياراته بكل الوسائل الممكنة، وأن يواجه العالم من أجل ما يراه صحيحا، أما التخلف فهو أن يقبل الإنسان بما يمليه عليه الآخرون. لقد واجه أراغونيس إسبانيا كلها بسبب لاعب واحد، ورضخ الفاسي بسرعة للائحة فيها كل الوزراء. أراغونيس حدد لائحته الخاصة للاعبين وخاض بهم منافسات أمم أوروبا وفاز بالكأس، وجاء عنده ملك وملكة إسبانيا وابنتهما ودخلوا مستودع الملابس ورقصوا طربا مع المدرب العنيد. وعباس الفاسي حددوا له لائحة حكومته وقبل بها، وبعد بضعة أشهر أصبحوا يتحدثون عن إقالته وتعيين حكومة جديدة وإرساله إلى بيته ليرتاح. أراغونيس عنيد وشرس لذلك يلقبونه بالتمساح، وعباس رجل بلا أسنان. منذ أكثر من 30 عاما وإسبانيا تقدم الدروس إلى المغرب في أشياء كثيرة. وعندما مات الملك الحسن الثاني تحدث الكثيرون عن الانتقال الديمقراطي في المغرب على الطريقة الإسبانية، لكن هذه الخرافة مضغها المغاربة وبصقوها لأنها نكتة، ولأن الجميع يعرف أن الفرق بين التخربيق والديمقراطية ليس هو وفاة ملك ومجيء ملك آخر، بل هو عناد وإصرار ومسيرة طويلة من التضحيات والقضاء على الأنانيات وبناء دولة القانون من الألف إلى الياء. وقدمت إسبانيا للمغرب درسا آخر في الديمقراطية عندما وقع فيها انقلاب عسكري خطير بداية الثمانينيات، فلم تعد البلاد إلى زمن الدكتاتورية، ولم تبن تازمامارت للانقلابيين، بل سارت بخطى أسرع نحو الديمقراطية. وها هي إسبانيا اليوم تقدم درسا آخر للمغرب.. عن طريق كرة القدم.