مريم حداد مواطنة من أصل سوري، ولدت في منطقة «الكوركون» بضواحي مدريد، اختارت منذ عامين ارتداء الحجاب الذي قلب حياتها، وعقدها أحيانا، لكنها أصرت على اختيارها، تقول مريم: «لا أحد أجبرني على ارتداء الحجاب، بما في ذلك والداي. أنا أرتديه لأني أريد ذلك. إن الأمر يتشابه مع فتاة تحب ارتداء الميني جيب وأخرى ترتدي نوعا آخر من اللباس. أطالب بأن يتم احترامنا مثلما يتم احترام أخريات يرتدين الميني جيب أو السراويل الضيقة». قبل بضعة أيام، دخلت مريم حماد إلى محل للنظارات الطبية في ليغانيس بالعاصمة الإسبانية مدريد وهي تحمل في يدها سيرتها الذاتية ومنديلا بنيا على رأسها. سألت مريم مستخدمة في المحل عن المكان التي ستجري فيه مقابلتها من أجل اختبار إمكانية التحاقها بالعمل. كان لها موعد مع مدير المحل عبر الهاتف، لذلك عندما رآها سألها فورا بنبرة استنكارية: لكن، لا أظن أنك ستمارسين عملك بذلك الشيء الموضوع على رأسك، أليس كذلك؟ أجابت مريم فورا: نعم، سأشتغل بالحجاب. كان مدير المحل ينظر إلى وجه مريم ثم إلى الورقة التي كتبت عليها سيرتها الذاتية. كانت سيرة لا جدال في مهنيتها، لكن من دون صورة. بعد هنيهة توجه المدير إلى مريم قائلا: أنظري، أنا عشت في المغرب لسنوات طويلة، وهناك انضبطت لعاداتكم، لذلك لا أعتقد أني أطالب بالكثير عندما أطالبكم هنا في إسبانيا بأن تنضبطوا لنمط العيش الإسباني. أجابت مريم فورا: حسنا، هذا يبدو لي جيدا، لكني إسبانية. أنا مسلمة، لكني إسبانية، ورأيت النور في ألكوركون (قرب مدريد)، ولازلت أعيش هناك. هذا الرد شلّ قدرة الرجل على الجواب لمدة تقارب نصف دقيقة، لذلك عندما نطق فلكي يخبرها فقط بأن المنصب الذي جاءت لشغله تم ملؤه مؤخرا. هذه أكذوبة. هما معا يعرفان أنها أكذوبة. نهضت الفتاة وانصرفت باستسلام. والد مريم سوري، ووالدتها إسبانية. مريم نحيلة وجميلة وتتشابه ملامحها كثيرا مع ملامح الممثلة باث فيغا. عمرها 23 سنة. تبتسم في الغالب وتتناقش في كل المواضيع. ترتدي ملابس فضفاضة وطويلة، وعندما تركب المترو فإنها تقرأ كتبا مثل «النبي عيسى في الإسلام». تحاول مريم دائما أن تتجنب تبادل التحية عبر الوجه مع الرجال، لا يعجبها ذلك وتفضل أن تسلم على الآخرين بواسطة اليد وتتمنى ألا يتسبب ذلك في اعتبارها قادمة من كوكب آخر. بدون حجاب.. كانت مريم تعتبر نفسها مسلمة دائما، وفي الوقت نفسه اعتبرت نفسها إسبانية مثلها مثل الآخرين، أي مثل ذلك الرجل الذي أهانها عندما دخلت عنده إلى محل النظارات الطبية. حصلت مريم على شهادة في تخصص النظارات الطبية، ورغم أن هناك طلبا متزايدا على هذا الاختصاص، فإنها فوجئت بتأخرها في الحصول على عمل، بل وتحملت الكثير من الإهانات بسبب ارتدائها الحجاب، لكنها لم تفكر أبدا في التخلي عنه من أجل أن يصبح الحصول على عمل أسهل. ارتدت مريم الحجاب قبل سنتين فقط، أي عندما وصلت الحادية والعشرين من العمر. كان ذلك خلال الصيف، أي فترة قصيرة قبل أن تذهب في جولة سياحية إلى النمسا. نهضت من النوم صباح أحد الأيام، وأعدت حقيبة السفر، وتأكدت من وجود تذاكر الطائرة. بعد ذلك توجهت نحو المرآة، ثم وضعت حجابا وتوجهت نحو مطار باراخاس. كان ذلك تصرفا بسيطا وعفويا وشخصيا وخاصا جدا. ربما كان ذلك التصرف حميميا أيضا بينها وبين نفسها. خرجت مريم ذلك الصباح من المنزل وهي ترتدي الحجاب لأول مرة. وبعد جولتها السياحية، عادت بعد شهر إلى المنزل وهي ترتديه، وإلى اليوم لم تنزعه مطلقا. إنها ترتديه أيضا في المنزل بوجود رجال ليسوا من عائلتها. لم تخرج مريم منذ ذلك اليوم إلى الشارع بشعر مكشوف. لا أحد فرض عليها ارتداء الحجاب. لقد أنصتت إلى صوت داخلي، كأنه صوت نفسها، يقول لها إن هذا الصباح الصيفي هو الموعد المناسب من أجل تغيير ملامحها والاقتراب من الصورة التي كانت دائما تتمناها لنفسها. «الحجاب هو وسيلة لاختيار الجمال الداخلي في عالم يكافئ المظاهر فقط ويفتخر بالعري. أنا أريد أن يراني الآخرون كما أنا في داخلي. الإسلام يقول إن المرأة لا يجب أن ينظر إليها عن طريق هيئتها وجسدها، وهذا ما أفعله». هذا ما تقوله مريم وهي تحاول أن يكون كلامها واضحا ومفسرا بشكل كاف، وتضيف: «ليس هذا فقط، بل إنني أشعر بكوني أكثر حرية مع الحجاب. إنها وسيلة لكي أوضح أكثر قناعاتي ومبادئي. إنها طريقة تعكس من أكون فعلا. لا أحد أجبرني على ارتداء الحجاب، بما في ذلك والداي أو النصوص القرآنية. أنا أرتديه لأني أريد ذلك. إن الأمر يتشابه مع فتاة تحب ارتداء الميني جيب وأخرى ترتدي نوعا آخر من اللباس. وفي حالتي، فإن الموضوع له علاقة بالدين، لكني أطالب بأن يتم احترامنا مثلما يتم احترام أخريات يرتدين الميني جيب أو السراويل الضيقة». بين الاختيار والإجبار في إسبانيا يوجد اليوم أزيد من نصف مليون امرأة مسلمة، بعضهن يرتدين الحجاب والأخريات لا. بعضهن يتم إجبارهن على حمل الحجاب من طرف أزواجهن أو آبائهن. لكن حالة مريم مختلفة. في إسبانيا، يوجد تيار طليعي من المجتمع يرى في الحجاب رمزا واضحا للخنوع والخضوع للرجل. هذا التيار هو نفسه الذي يرى أن الحجاب، بغض النظر عما إن كانت المرأة التي ترتديه فعلت ذلك مرغمة أو بمحض إرادتها، رمز مظلم يتصادم مع حرية المرأة أو الحرية بشكل عام. من هذا المنطلق، فإن الكثير من المؤسسات والمدارس تمنعه بقرار شخصي من المديرين. مريم تعرف ذلك وتفهمه، لكنها ليست متفقة معه. بالنسبة إليها، فإن الحجاب يرمز إلى العكس تماما. إنه يعكس حرية الاختيار. وترى أن الرفض الذي يقابل به الحجاب في الشارع الإسباني يعني أن هناك شيئا ما لا يتحرك كما يجب. «الناس ليسوا مستعدين بعد لقبول أشخاص ليسوا مثلهم». هذه الفتاة، مريم، رغم ولادتها في مدريد و رغم كون كل ثقافتها إسبانية ورغم مراحل طفولتها مع قريناتها الإسبانيات ودراستها الجامعية، فإنها تتحدث أحيانا كما لو أنها مهاجرة وصلت للتو من بلد خارجي، كما لو أنها تحتاج إلى الاندماج في نفس الحي الذي ولدت فيه. ولها في ذلك أسبابها الخاصة، ومن بينها هذه الحكاية: «قبل عام ونصف العام، تقول مريم، ذهبت إلى قسم المستعجلات في مستشفى لأني كنت أشعر بألم. كنت مرهقة جدا وأفسر للطبيب ما أعانيه بصعوبة. بعد ذلك سألني الطبيب ذلك السؤال المكرر: «ربما يكون هذا الشيء الذي على رأسك تسبب لك في الكثير من الحرارة؟». بعد ذلك، قال لي إني لا أعاني من أي شيء، ثم قال لي إني أختلق المرض وعلي أن العودة إلى منزلي. وفي اليوم التالي، ذهبت إلى مستشفى آخر وأجروا لي تحاليل واكتشفوا أني أعاني من فقر الدم ومن مشكلة في القلب». وتضيف مريم حكاية أخرى. «مرة في المترو، كنت مع إحدى قريباتي، التي ترتدي الحجاب أيضا، ونشب نزاع لأن عاملة التذاكر أصرت على أننا لم نحترم الوقوف في الطابور». لم يكن ذلك صحيحا وجاء الأمن من أجل ضبط الأمور. وفي إحدى المرات، في الحافلة، قامت امرأة من جانبي وغيرت المقعد عندما جلست إلى جانبها». تعرف مريم أن مثل هذه الحالات تصبح معتادة عندما تذاع أخبار عن عمليات إرهابية. لقد تعلمت هذه الفتاة أنها يجب أن تبذل مجهودا أكبر في الحياة، وأن تتعب أكثر من أجل الحصول على عمل، ربما لن تعترض هذه المشاكل فتاة أخرى في مثل سنها، سواء كانت مسلمة أو لا، إذا كانت لا ترتدي الحجاب. وأخيرا... قبل بضعة أيام، ذهبت مريم التي ترتدي حجابا إلى محل نظارات في منطقة راقية في مدريد. كان المحل في حاجة مستعجلة إلى الموظفة مختصة. ذهبت مريم كما تذهب دائما، أي بدون أمل كبير في الحصول على عمل، بل ذهبت وكأنها مستسلمة تماما للاعتقاد بأن النتيجة ستكون كما كانت دائما. لكنها ظلت تعاند وأصرت على ألا تنزع الحجاب مهما كانت الظروف. عندما وصلت إلى المحل استجوبتها المسؤولة بيلار بونيّا، التي تحكي عن لقائها الأول بمريم قائلة: «في البداية، عندما دخلت مريم ورأيتها بحجابها البني ومعطفها الطويل، قررت مع نفسي وقلت لا. لكن، عندما رأيت سيرتها الذاتية وسمعتها تتكلم، عرفت أن هذه الفتاة ستفيدنا كثيرا في العمل، خصوصا وأننا كنا في حاجة ماسة إلى من يعوضنا في الفترة المسائية للعمل. في البداية، اشتكى بعض الزبناء وقالوا متهكمين إن المحل أصبح متعدد الأعراق، وإنهم سيمرون فقط خلال الفترة الصباحية، أي عندما لا تكون مريم موجودة. لكن ما حدث هو أن مستوى المبيعات ارتفع في المساء، أي خلال وجود مريم، وهو ما أسعدنا كثيراً. أحيانا يأتي زبناء من كبار السن. وعندما تفحصهم هذه الفتاة التي ترتدي بذلة بيضاء وحجابا أبيض، فإنهم لا يستطيعون مقاومة فضولهم ويسألونها: - اسمعي يا ابنتي.. كيف تتحدثين الإسبانية بكل هذه الجودة والطلاقة؟ فتجيبهم الفتاة دائما: - أنا من ألكوركون.. آية: يجب أن تكون المرأة حرة في قرارها زارت مريم، إلى حد الآن، مسؤولي أكثر من 30 محلا للنظارات الطبية، وكلهم كانوا يجيبونها نفس الجواب، أحيانا بطريقة ودية وأحيانا بعبارات جافة. يعتقد مسؤولو هذه المحلات أن الزبائن سيقلون إذا اشتغلت مريم المحجبة في محلاتهم. في الشهور الأولى من مسيرة بحثها عن عمل، كانت مريم تذهب إلى كل المحلات. لكن مع مرور الوقت أصبحت تذهب إلى تلك المحلات الموجودة في مناطق عمالية أو التي يوجد فيها مهاجرون. لم تعد تقصد المناطق الغنية. في أحد الأيام، تعرفت مريم على آية في مقهى. آية الوليد عمرها 28 عاما، مولودة في العاصمة المصرية القاهرة وتحمل شهادة في اللسانيات الإسبانية. وصلت آية إلى إسبانيا سنة 2002 من أجل الإعداد لأطروحة دكتوراه حول الأدب المقارن. آية مسلمة، لكنها لا ترتدي الحجاب. حياتها في إسبانيا، رغم أنها أجنبية، أسهل بكثير من حياة مريم الإسبانية. آية تسدل شعرها ليس كنوع من التمرد، وليس من أجل أن تحس بأنها أكثر حرية، وليس من أجل أن تتجنب المضايقات والمصاعب التي تعترض مريم، بل لأنها تعتقد أن قرار حمل الحجاب هو مسألة شخصية تتقرر بينها وبين نفسها وبين تعاليم دينها. تقول آية إنها غير مستعدة حاليا لارتداء الحجاب، وربما سيأتي وقت لذلك، وربما لن ترتديه مطلقا. الشيء الأساسي بالنسبة إليها هو ألا يفرضه عليها أحد. «أعرف أن هناك نساء يتم إجبارهن على ذلك، وهن نساء خاضعات، تقول آية، لكن حالتي أنا مختلفة لأني أعيش في إسبانيا لوحدي وأفعل ما أشاء وأقرر ما أريد. الحجاب له رمز أكبر من مجرد منديل على الرأس. كما أن ارتداء الحجاب يتطلب من المرأة أن تنضبط أيضا للباس معين بحيث لا يمكنها ارتداء قميص مكشوف الذراعين أو سراويل ضيقة، ولا يمكنها الذهاب إلى الشاطئ رفقة رجال. أعرف أن هذا يفهمه الكثيرون بطريقة سيئة، إنه يعني التمييز، لكني لا أراه كذلك. إذا كانت المرأة حرة في الكشف عن جسدها، فلماذا لا تكون حرة أيضا في ستره؟ الأساسي بالنسبة إلي هو أن تكون المرأة حرة في قرارها وألا يجبرها أحد على أي قرار. عن «إيل باييس» الإسبانية