خلف الصورة التي يتم تسويقها لقلعة مكونة، هناك حيث تنبت آلاف الورود التي تحاول أن تصالح السكان مع ماضي القلعة التي احتضنت أهم المعتقلات السرية بالمغرب في زمن الجمر والرصاص. تختفي مجموعة من الأسرار التي تكشف الوجه الحقيقي لمنطقة نائية لازال أهلها يعانون في صمت من ظلم مزمن. هناك أيضا تكتشف مغاربة يعيشون بالبركة فقط ، رغم أنهم يقطفون بأيديهم وردا يتحول إلى عطور تصنع السعادة لملايين النساء عبر العالم. للوصول إلى قلعة مكونة البعيدة عن ورزازات بحوالي 110 كيلومترات يتعين سلك المنعرجات الخطيرة ب«تيشكا»، قبل أن تستقبلك قصبات تاريخية تحولت إلى أطلال بفعل الإهمال، فيما تخلى السكان عن البناء بالتراب وحل الإسمنت مكانه. آلاف الزوار حلوا بقلعة مكونة التي تحمل اسمها من واد مكون وهي كلمة أمازيغية تعني «الراكد» أو الجنين الذي بقي في بطن أمه، لمتابعة مهرجان الورود في نسخته 48 لكن خيبة الأمل كانت كبيرة بفعل الصورة الباهتة التي ظهر عليها هذا الأخير، والارتباك الذي ساد التنظيم، والغريب أن فتيات المنطقة لم يتقدمن إلى مسابقة ملكة جمال الورود، ووجد منظمو المهرجان صعوبة في إقناع الفتاة التي تم اختيارها لتكون ملكة هذه السنة، بعد أن تم وعدها بمبلغ مالي. حين يتوقف الزمن داخل القلعة تعامل السلطة مع سكان القلعة توقف في سنوات الثمانينيات والسبعينيات، ويبدو أن بعض المسؤولين هناك لا زالوا يحنون إلى زمن المخزن ويستمدون قناعاتهم من المعتقل الذي يطل على القلعة مثل الحارس. يقول أحد الفاعلين الحقوقيين بالقلعة: «هنا إذا حل ضيف لدى إحدى العائلات يتوجب إخبار السلطة بالأمر لأنها تحرص دائما على حقن السكان بجرعات من الخوف، كما أن نشاط الجمعيات يخضع لمراقبة لصيقة، وتعامل الدرك يتسم بنوع من القسوة من أجل أن يبقى الجميع تحت «السباط»، لذا فإن التوجس من المخزن لازال جاثما على القلوب مثل ما كان في الماضي، وإغلاق المعتقل الذي كان ولازال الحديث عنه من المحظورات هنا، لم يغير شيئا من واقع سكان القلعة الذين لازالوا يعيشون في معتقل مفتوح بسبب الفقر، ويترددون كثيرا قبل البوح بمعاناتهم للغرباء تجنبا للمشاكل». حضور عامل إقليم تنغير المعين حديثا لمتابعة المهرجان في يومه الثاني، خلق نوعا من الاستنفار بالقلعة بفعل الإجراءات الأمنية المشددة، والمظاهر البرتوكولية المبالغ فيها والتي تهدف بالأساس إلى ترهيب السكان المقهورين، بعد أن تم وضع الحواجز على مداخل «الشانطي» الوحيد بالقلعة الذي يربطها بورزازات وبومالن، وإجبار الحافلات والسيارات وقوافل السياح والزوار المغاربة على سلك ممرات ترابية، في الوقت الذي اصطف فيه العشرات تحت شمس حارقة للسلام على العامل الذي حضر لمتابعة استعراض باهت دام 15 دقيقة أمام المنصة، في حين بقي آلاف على امتداد الطريق ينتظرون أن تمر الفرق الفلكلورية أمامهم دون أن يتحقق هذا الحلم الذي قطع البعض من أجله مئات الكيلومترات، قبل أن يغادر العامل المنصة في موكب مكون من أزيد من ثلاثين سيارة معظمها رباعية الدفع، ترافقها سيارات الدرك والقوات المساعدة والمطافئ، التي أطلقت صفارات الإنذار في استعراض من نوع آخر باتجاه أحد مصانع الورود. ورود تحتضر جني الورود، التي تستعمل كسياج يفصل بين الأراضي، يتم في ساعات الصباح الأولى قبل أن تشرق الشمس، مجموعات من الأطفال والنساء والرجال يغادرون منازلهم باتجاه الحقول وفي عيونهم حسرة على كنز ثمين يتم بيعه بثمن بخس دون القدرة على المساومة والاحتجاج. نسبة مهمة من سكان القلعة بدأت تتخلى عن زراعة الورد كنوع من الاحتجاج على الاستغلال الذي يتعرضون له، يقول أحد شباب المنطقة الذي نال شهادة الإجازة بالرباط قبل أن يعود للعمل في الحقول صباحا، ليتحول في المساء إلى دليل سياحي غير مرخص له، «قبل أربع سنوات قام بعض السكان بإتلاف محصول الورد بعد أن حدد سعره في درهمين فقط، واتجهوا إلى زراعة اللوز أو الزيتون»، قبل أن يضيف أن سعر الورد يتم تحديده من طرف المجلس البلدي وأصحاب المصانع في تغييب تام للفلاحين الذين يستيقظون في ساعات الصباح الأولى من أجل جنيه، والاستسلام لأشواكه التي ترسم على الأيادي خطوطا كثيرة تحولها إلى لوحة تفضح معاناة مواطنين حكم عليهم القدر أن يولدوا في جزء من المغرب غير النافع، رغم أن البعض عرف كيف ينتفع منه ليراكم ثروة مهمة على حساب السكان، الذين أجمعوا على وجود تواطؤ في تحديد السعر البخس للورود بطريقة تحتكر هذه السلعة، وتضرب عرض الحائط قانون العرض والطلب. هذه السنة حدد سعر الكيلوغرام من الورد في تسعة دراهم، وهو مبلغ يبقى غير كاف حسب شهادات عدد من قاطني القلعة بالنظر للمجهود الذي يتم بذله، والّذي يحول الفلاحين إلى مجرد يد عاملة يسيل عرق جبينها، ليتحول إلى أرباح يجنيها التجار الكبار، وأصحاب المصانع الذين يحولون الورد إلى منتجات أولية يتم تصدير جزء كبير منها إلى الخارج، لاستعمالها من قبل الشركات العالمية المتخصصة في إنتاج العطور، في حين يحصل الفلاحون على دراهم قليلة يستعينون بها على أداء الديون التي تراكمت عليهم طيلة السنة. أحد شباب المنطقة أكد ل»المساء» أن ضغوطات مورست على السكان لإجبارهم على عدم بيع الورود لبعض التجار المغاربة والأجانب، الذين يحاولون شراء المنتوج بطريقة مباشرة منهم، بعد زيادة درهمين على السعر الذي يتم فرضه على السكان، في احتكار واضح يهدف إلى ضمان أن يبقى المزارعون مجرد حطب يحترق من أجل مد المصانع الموجودة بالقلعة، بما تحتاجه من ورود تخفي تحت رائحتها، ومنظرها الجميل، مرض الحساسية الذي يحصد سنويا ضحايا جددا من سكان المنطقة. قلعة مكونة نموذج لعدة مناطق جبلية نائية بالمغرب يتم ستر الفقر والتهميش الذي تعانيه من خلال المهرجانات التي تهدر فيها أموال طائلة دون أن تحقق أي منفعة للسكان، باستثناء الاستمتاع بأهازيج الفرق الفلكلورية، التي هدد بعضها أيضا بمقاطعة المهرجان احتجاجا على الاستغلال الذي يمارس في حقها، بسبب هزالة التعويضات الممنوحة، والتي لا تتجاوز خمسين درهما للفرد، كما كشف عن ذلك أحد أعضاء فرقة عملت بالمهرجان. ورد مخلوط ب«الماحيا» شباب المنطقة، الذين رحل معظمهم باتجاه أوروبا، يبقي القلعة حية، ويمدها بالقدرة على مقاومة العزلة والتهميش من خلال التحويلات المالية، فهنا معظم الأسر لديها على الأقل فرد بالخارج، يضمن للأسرة عائدا ماليا يقيها شر الفقر الذي يسيطر على أكثر من نصف السكان، فعائدات الزيتون واللوز والتين وحتى محاصيل الورود، تبقى دائما تحت رحمة الطبيعة التي تمنح في بعض الأحيان الصقيع بسخاء كبير، مما يتلف المحاصيل التي تبقى أيضا مهددة حين يرحل موسم الشتاء، بفعل موجات الحر التي تهب على المنطقة بين الفينة والأخرى. إضافة إلى المهاجرين بالخارج، هناك نسبة مهمة من الشبان والرجال غادروا القلعة باتجاه مدن مغربية أخرى خاصة الدارالبيضاء، للعمل في مجال البناء، أما من بقي بالقلعة فهو يصارع الزمن إما بالاشتغال بشكل موسمي في الحقول، أو العمل كدليل سياحي في انتظار زواج أبيض ينقذه من معتقل الضياع والفقر، في حين استسلم آخرون للإدمان على «الماحيا» علها تنسيهم بعض المعاناة، حيث توجد بالقلعة عدة معامل سرية لتقطير الماحيا داخل المنازل، أمام توفر المادة الأولية المتمثلة في «الشريحة»، وهو الأمر الذي يتم بعلم عناصر الدرك، حيث توجد بعض المنازل المعروفة بصنع هذا المشروب الكحولي الذي يهدد شباب المنطقة، كما يوجد حي آخر مخصص للبغاء يستوطنه عدد من الفتيات اللائي قدمن من خارج القلعة، لتقديم خدماتهن الجنسية مما أساء كثيرا إلى صورة هذه المنطقة وسكانها المحافظين. القناع الذي يخفي الوجه الحقيقي للقلعة خلف «الشانطي» الذي يخترق القلعة تقبع بالجبال دواوير معزولة لا يصلها الزوار، ولا تنبت فيها ورود بل حجارة فقط، دواوير بدون طرق ولا قناطر، مما يفرض على سكانها خوض معارك يومية مع طبيعة قاسية، والصراع من أجل ضمان لقمة العيش، أما أطفالها فمحكوم عليهم بتوديع مقاعد المدرسة وتقمص دور الرجولة في سن مبكرة. نسبة الهدر المدرسي بالقلعة تصل إلى مستويات قياسية، حيث يتعين على التلاميذ قطع حوالي 14 كيلومترا للوصول إلى مؤسساتهم التعليمية، كما هو الحال في جماعة سدرات الغربية، نظرا لبعد الثانويات التأهيلية، في حين تصل نسب الهدر المدرسي في المدارس القريبة من التجمعات السكانية إلى ما بين 25 و30 في المائة بالنسبة للمرحلة الابتدائية، كما أن مستوى الخدمات الصحية بالقلعة، التي يوجد بها مركز صحي يتيم، يبقى جد متواضع، ويطرح مشاكل بالنسبة للسكان خاصة النساء الحوامل، لذا يضطر البعض إلى الذهاب إلى ورزازات رغم بعد المسافة، على أمل الحصول على خدمات طبية في المستوى. ضعف البنية التحتية بالقلعة لم يشجع المستثمرين المغاربة، والأجانب على خلق مشاريع بالمنطقة بل بالعكس، أغلقت بعض الفنادق السياحية أبوابها، في حين تصارع أخرى من أجل البقاء، كما يؤكد صاحب مطعم بالقلعة، حين أشار إلى أن المسؤولين والمنتخبين همهم الوحيد هو تسويق صورة وهمية عن القلعة كمدينة رومانسية تنتشر فيها الورود، ويوزع سكانها الابتسامات من فرط السعادة، كما يظهر من خلال ملصق المهرجان، لكن الواقع غير ذلك، فالرياح التي تهب بين الفينة والأخرى تدفع الزوار إلى إغلاق أعينهم لتفادي الغبار الموجود بكثرة على حافة الطريق التي تزاحمت فيها جحافل المتسولين القادمين من مدن أخرى قريبة، أملا في جمع صدقات بالعملة الصعبة من السياح، كما أن تواضع مستوى الخدمات يحول دون استفادة القلعة من عائدات السياح الأجانب لتبقى مجرد نقطة عبور، يسلكها عدد من عشاق السياحة الجبلية والمغامرات، في اتجاه مناطق أخرى مثل تنغير. الفقر المدقع الذي يعاني منه بعض السكان يجعل من اللحم مادة استهلاكية نادرة الحضور في الموائد، فهنا على امتداد الطريق المؤدية من وإلى القلعة مرورا ببومالن أو ورزازات تشاهد نفس المناظر المؤلمة التي تصادفك في جبال الأطلس، لنساء مسنات بوجوه تكاد تلامس الأرض بفعل ثقل الحطب والعشب، الذي يتم جمعه قبل وضعه على الظهور، وقطع مسافات طويلة، هنا أيضا تكتشف مغاربة يعيشون بالبركة فقط، رغم أنهم يقطفون بأياديهم قبل شروق الشمس، ورودا تتحول إلى عطور تصنع السعادة لملايين النساء عبر العالم. تقول سيدة مسنة صادفناها تقطف الورود بأحد الحقول بعربية تغالبها الأمازيغية «هاد الورد عزيز علينا، لكن شي ناس قتلوه». قبل أن تضيف بتعبير صادم «هادي أرضنا، ولكن ولينا فيها غي خماسة عند الأجانب صحاب المصانع»، لتقطف وردة وتمنحنا إياها قائلة: «واش هاد الورد بصح الثمن ديالو تسعة دراهم للكيلو». رغم كل شيء تبقى القلعة مكانا يستحق الزيارة بعيدا عن بهرجة المهرجان الباهت الذي قاطعه عدد من السكان، فيما غادره بعض السياح الأجانب وفي عيونهم علامات استغراب تقارن بين الصور الموجودة للقلعة في الانترنت، والوجه المشوه والصادم الذي اكتشفوه بعيدا عن المساحيق التي يحلو للمسؤولين وضعها، لتغطية عجزهم عن التدبير، باستثناء اجتهادهم في صرف ميزانية مهمة لبناء مقر مجلس البلدي ووضع واجهة رخامية له.
«الجوهر» الذي يختفي في أوراق الورود حسب البحث الذي قام به الأستاذ محمد شبالي فإن الورود الموجودة بحوض دادس هي نوع من الورود الدمشقية ذات الأصل الهندي، وجدت طريقها إلى المغرب عبر إيران وسوريا من خلال المسالك التي كانت تخترقها تجارة القوافل التي كانت تعبر السودان والمشرق العربي. كما تشير الدراسات التي أنجزت حول المنطقة إلى أن هذه الورود التي تنتشر أيضا في مناطق أخرى من العالم مثل تركيا وسوريا وبلغاريا وفرنسا، وجدت بدادس قبل الفتح الإسلامي، ومنه انتقلت إلى بعض البلدان الأوربية، وهي الدراسات التي ترجح أن يكون اليهود هم من عملوا على جلب الورود إلى دادس بحكم أنهم استقروا بالحوض منذ زمن بعيد، واهتموا بشكل خاص بالمزروعات القابلة للتسويق وإعادة التحويل وخاصة التين الذي يجفف لاستخلاص ماء الحياة منه. زراعة الورود بالمنطقة ستعرف انتشار كبيرا في الحقبة الاستعمارية بعد أن شجع المقيم العام الفرنسي هذه الزراعة تزامنا مع إحداث أول معمل لتقطير الورود في سنة 1938، قبل أن يتم إحداث معمل آخر في سنة 1949. الورود الموجودة بحوض دادس يتم تحويلها بعد المعالجة إلى مواد تستعمل في صناعة العطور، وكذا مستحضرات التجميل وبعض الأدوية، غير أن الأرباح المهمة تأتي من المواد العطرية التي يتم استخلاصها وتصديرها، كالجوهر الذي يتطلب تقطير ثلاثة أطنان من الورود، للحصول على لتر واحد، يباع بثمن جد مرتفع قد يعادل ثمن كيلو غرام من الذهب الخالص، ويختلف هذا الثمن حسب تقلبات السوق العالمية، علما أن الأثمنة التي تباع بها هذه المواد تحاط بنوع من السرية التامة. إضافة إلى الجوهر يتم استخلاص الزيت المكثف، حيث ينتج كل طن من الورود ما قدره 2.4 كيلو غرام من الزيت المكثف وفي المرحلة الأخيرة يتم استخلاص ماء الورد في عينات تختلف جودتها. وتشير الدراسات إلى أن المغرب يحتل المرتبة الثانية في إنتاج الجوهر المستخرج من النباتات العطرية بعد بلغاريا، وهو ما يحقق للمعامل المتخصصة في إنتاجه أرباحا مهمة بالنظر إلى السعر المتدني للمادة الأولية وتدني تكلفة الإنتاج