ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، أمس الاثنين بالقصر الملكي بالرباط، الدرس الثاني من سلسلة الدروس الحسنية الرمضانية. وألقى الدرس الثاني بين يدي جلالة الملك، الأستاذ عمر الفاروق عبد الله، باحث أمريكي وأستاذ سابق في جامعة ميشيغان، متناولا بالدرس والتحليل موضوع "واجب المسلمين في إسداء الخير للعالمين"، انطلاقا من قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس". وأكد المحاضر، في مستهل هذا الدرس، على أن كلمة (الناس) في هذه الآية عامة تفيد جميع الناس على مختلف أشكالهم وأنواعهم وأحوالهم: المؤمن وغير المؤمن، المطيع وغير المطيع، أي أن أمة الإسلام ينبغي أن تكون خير الناس وأنفعهم وأرحمهم لجميع الناس. وليست خيرية هذه الأمة - يضيف المحاضر - "مفخرة نباهي بها غيرنا ونتكبر بها عليهم، وإنما هذه الخيرية أمانة كبرى ومسؤولية ثقيلة، فالدنيا دار الخدمة، والآخرة دار الأجرة"، مشيرا إلى أن الله تعالى يضع محبة خاصة في قلوب المؤمنين الصادقين الصالحين، وهذه المحبة تدل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في العمل. وأضاف أن هذه المحبة أشار إليها الرسول الكريم، حيث قال "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، مبرزا أن كلمة الأخ "لأخيه" في الحديث بمعنى الأخ في الإنسانية من بني آدم عموما وليس الأخ في دين الإسلام فقط. وأكد المحاضر أن هذا المعنى جاء في شروح كثيرة، مسجلا أن هذه المحبة " ليست مجرد الشعور بالتلطف في القلب نحو المحبوب، وإنما هي إرادة جلب المنافع له ودفع المفاسد عنه والسعي في سبيل ذلك". وبعدما أكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم "بعث برحمة عظيمة جدا مشتملة على جميع وجوه الرحمة الإلهية كي يكون الرسول رحمة لجميع الناس والخلق في كل مكان وزمان. وكلمة (العالمين) عامة تعم كل ما يصدق عليه اسم (العالم). فهي تفيد جميع الناس وجميع الخلق. فالآية لم تخص عالما من دون عالم"، سجل أن هذه الرحمة النبوية العظيمة غير المعهودة شملت المؤمن وغير المؤمن، والموحد وغير الموحد، والمطيع وغير المطيع. بل شملت كلمة (العالمين) - يضيف المحاضر - الجمادات والنباتات والحيوانات وجميع الكون، مبرزا أن من مفهوم هذه الآية أن واجب الأمة أن تتخلق بخلق نبيها الكريم، وتتبعه فتكون هي الأخرى رحمة للعالمين، تجلب المصالح لجميع الناس ولجميع الخلق وتدرأ المفاسد عنهم. وأبرز أن الله تعالى زين نبيه الكريم ب"الرحمة في جميع أقواله وأفعاله وشمائله. ومن ذلك أنه لم يكن سبابا ولا لعانا (..) وينبغي أن تكون أمته رحمة لجميع الناس أيضا فلا ينبغي أن نتعهد السب واللعن والدعاء على الناس. بل من الرحمة الإلهية أن ندعو حتى لأعدائنا بالتوبة والهداية والصلاح". وقال إن ذلك "هو من الحكمة أيضا، فإننا كما قال بعض العلماء عندما ندعو على من عادانا وأساء إلينا فكأننا بذلك نطلب من الله تعالى أن يزيدهم شرا وعدوانا وطغيانا وإساءة إلينا"، معتبرا أن "بعض الكوارث التي نزلت بنا اليوم هي بسبب ما تعاوده بعض المسلمين من الدعاء على كل من عادانا ولاسيما بالمكبرات في المناسبات الدينية". واعتبر أن معنى قوله تعالى في كتابه العزيز "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، هو أن أفراد هذه الأمة ينبغي أن يكونوا خيارا وعدولا، كما كان الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، والسلف الصالح خيار الناس وغاية في العدالة، و(الوسط) من الناس في كلام العرب هو الفاضل صاحب الخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي الإفراط والتفريط. وشدد المحاضر على أن "واجب المسلمين في الحفاظ على جميع الناس وإسداء الخير للعالمين بمثابة مقام القرآن الكريم في الهيمنة على الكتب السماوية السابقة والرسائل النبوية السالفة"، مؤكدا أنه ينبغي أن يكون المسلم هو الحل وليس المشكلة. وشدد في هذا الصدد على أنه "بانحطاط المسلمين تخسر الدنيا بأسرها خسارة عظيمة". وأكد أن الرسول الكريم أهل أمته لتكون رحمة للعالمين وأمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس "فقد هدانا لكل ما نحتاج إليه لنقوم بهذه الأمانة. فباتباع هديه والتخلق بخلقه أصبحنا خير الناس لجميع الناس". وكان الرسول الكريم - يضيف المحاضر - بسيرته الحكيمة وسنته الكريمة الحل لكل مشكلة، وأمثلة ذلك كثيرة جدا، مؤكدا أن الحضارة الإسلامية أدت دور الإصلاح وتقديم الخير لجميع الناس في أجل عصورها وربما جاءت بحلول عجيبة لمعضلات المجتمعات، التي لم يقدر على حلها غير المسلمين. وأبرز في هذا السياق أن هذه الحلول من أهم أسباب انتشار الدعوة وقبول الناس للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ومن أمثلة ذلك، يوضح المحاضر، ذلك الخير العام الذي قدمه المسلمون (القرى التجارية المشتركة)، التي أقامها المسلمون في غرب إفريقيا في وقت مبكر، والتي أمكنت المسلمين من تحمل الخسائر الاقتصادية والاستمرار بالتجارة العالمية، رغم الظروف الصعبة التي واجهتهم في غرب إفريقيا حتى حولوا المنطقة كلها إلى سوق دولية خصبة وأحدثوا وسائل الاتصال بين جميع نواحي المنطقة والعالم الخارجي. وتابع أنه في القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين، اشترك المسلمون في وضع نظام اقتصادي عالمي فعال بالتعاون مع الصين، فوضعوا ونظموا الأسواق العالمية من أقصى الشرق في الصين، إلى أقصى الغرب، إلى الأندلس وأوروبا الشرقية والغربية وغرب إفريقيا، مشيرا إلى أن هذا النظام الاقتصادي العالمي النافع الذي انهار في القرن الرابع عشر الميلادي بغتة انهيارا تاما بسبب انتشار الطاعون العالمي المعروف في التاريخ بالموت الأسود، وضع الأسس التي قام عليها نظام البنوك والرأسمالية الغربية بتعديلاتها الضارة في القرن 15 وما بعد ذلك. وسجل أن الخير الذي قدمه المسلمون للعالم بمختلف العلوم والصناعات معروف ومعترف به، مبينا أن من أهم عناصر ذلك، صناعة الورق بطريقة رخيصة والتي امتدت من مدينة بخارى الى الغرب والتي أدت إلى ظهور حضارة الكتاب ومحو الأمية في بعض الاحيان والمناطق، وكذلك علم الرياضيات الذي تبلور بين المسلمين لعدة قرون وقدموا الى العالم مفهوم الصفر وغير ذلك من الامور التي لولاها لظل اكثر وجوه التقدم التكنولوجي التي نعرفها ونستفيد منها اليوم، كالحاسب الآلي وغيره، من محض المستحيل. ومن المعلوم، يضيف المحاضر، ان من أبرز سمات الحضارة الإسلامية انها فتحت أبواب التعايش بين الناس، رغم اختلاف الأديان والأجناس واللغات، وأنها شجعت التبادلات الثقافية والعلمية الفعالة، مذكرا في السياق ذاته أن المسلمين عرفوا بالدفاع عن الأقليات الدينية التي عاشت بينهم. واستدل المحاضر بأبحاث شهيرة انتهت الى التأكيد على أن الجامعات الغربية المشهورة التي ظهرت في اوربا في آخر العصور الوسطى لم تكن ظاهرة ثقافية مستقلة، بل تأثرت إلى حد بعيد بالمدارس العليا في الإسلام، التي سبقتها ولاسيما المدارس الخاصة بإخراج الفقهاء والمفتين والمجتهدين. وقال إن من أمثلة آثار المدارس الاسلامية على الجامعات الأوربية الناشئة، النظام المعروف بالكرسي الجامعي المنتشر في الغرب والمأخوذ من كراسي التعليم في العالم الاسلامي، وشهادة الدكتوراه وغيرها، مبرزا ان الاستاذ المقدسي اثبت في مؤلفه "ظهور الإنسانية" أن الفلسفة المعروفة في الغرب بالإنسانية، والتي كانت من أهم عناصر النهضة الاوروبية تعود الى الحضارة الاسلامية. وبعد ان ذكر بأن البلاء الشديد لهذه الامة كان في القرنين الماضيين بسبب الاستعمار وما بعده، قال المحاضر ان التجديد المتكرر في تاريخ الحضارة الاسلامية هو من اعظم عجائب هذه الامة، لافتا الى ان العبرة من التجديد هي ان يدرك الناس أن اليأس غير مقبول شرعا لأن حكمة الله بالغة ورحمته واسعة. وفي ختام هذا الدرس الديني، تقدم للسلام على أمير المؤمنين الشيخ مختار جمعة، وزير الأوقاف في جمهورية مصر العربية، والأستاذ محمد خليل، وزير الشؤون الدينية بتونس، والأستاذ رافع بن عاشور، أستاذ بجامعة قرطاج (تونس)، والأستاذ عبد السلام العبادي، نائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (الأردن). كما تقدم للسلام على أمير المؤمنين الشيخ سليم علوان الحسني، أمين عام دار الفتوى بأستراليا، والأستاذ عمار جمعي الطالبي، نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والشيخ عثمان نوح شاربوتو، كبير الأئمة ومفتي جمهورية غانا، والأستاذ الطالب أخيار بن الشيخ مامينا آل الشيخ ماء العينين، عضو المجلس الأعلى للفتوى والمظالم في موريتانيا، والشيخ نافع بريز أوريلا، أستاذ في جماعة الدعوة الإسلامية في مكسيكو، والأستاذ شريف عمر عبد العزيز، نائب الرئيس للمجلس الاتحادي للتيجانية بالكوت ديفوار.