أرست الزيارة الرسمية التي قام بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، لجمهورية مالي من 18 إلى 23 فبراير الجاري، أسسا متينة لتعاون ثنائي ناجع يغطي شتى الميادين، فضلا عن كونها أعطت نموذجا ساطعا للتعاون جنوب -جنوب. وكان جلالة الملك حل، عشية يوم الثلاثاء الماضي (18 فبراير 2014)، بباماكو، المحطة الأولى من جولة إفريقية تقود جلالته إلى كل من الكوت ديفوار وغينيا كوناكري والغابون. ووجد جلالته في استقباله لدى نزوله من الطائرة بمطار باماكو سينو الدولي، فخامة الرئيس إبراهيم بوبكار كيتا. كما خصص العشرات من أفراد الجالية المغربية المقيمة في مالي والمواطنين الماليين، استقبالا حارا ومتميزا لجلالة الملك بالمطار، يعكس مدى الحب والتقدير الذي يكنونه لجلالته، كما يبرهن على متانة العلاقات العريقة والمتميزة التي تجمع بين البلدين والشعبين الشقيقين. ورافق جلالة الملك، خلال هذه الزيارة وفد مهم ضم مستشاري صاحب الجلالة، الطيب الفاسي الفهري وفؤاد عالي الهمة، ووزير الشؤون الخارجية والتعاون، صلاح الدين مزوار، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، ووزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، ووزير الفلاحة والصيد البحري، عزيز أخنوش، ووزير التجهيز والنقل واللوجيستيك، عزيز الرباح، ووزير الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، مولاي حفيظ العلمي، ووزير الصحة، الحسين الوردي، ووزير الطاقة والمعادن والماء والبيئة، عبد القادر اعمارة، ووزير السياحة، لحسن حداد، وكذا يوسف العمراني، مكلف بمهمة بالديوان الملكي. كما ضم الوفد مسؤولين وفاعلين اقتصاديين يمثلون القطاعين العام والخاص، وعددا من الشخصيات المدنية والعسكرية. ويوم الخميس (20 فبراير 2014)، أجرى جلالة الملك والرئيس المالي مباحثات على انفراد. وبالمناسبة وشح جلالة الرئيس إبراهيم بوبكار كيتا بقلادة الوسام المحمدي. وبعد ذلك ترأس صاحب الجلالة وفخامة إبراهيم بوبكار كايتا مراسم التوقيع على 17 اتفاقية، غطت مختلف مجالات التعاون بين البلدين الشقيقين. وتعكس هذه الاتفاقيات المهمة، التي تعرف انخراطا قويا للقطاعين العام والخاص، الإرادة المشتركة لقائدي البلدين للمضي قدما في تعزيز العلاقات الثنائية. كما يندرج التوقيع على هذه الاتفاقيات، في إطار المقاربة الملكية المندمجة تجاه إفريقيا، التي تضع العنصر البشري في صلب عملية التنمية وغايتها، وتقوم على التقاسم المتوازن لثمار النمو، فضلا عن كون هذه الاتفاقيات تجسد التزام جلالة الملك بتوطيد تعاون جنوب-جنوب تضامني وفعال، حيث جعله جلالته من دعائم السياسة الخارجية للمملكة، بما يخدم مصالح الشعوب الإفريقية الشقيقة. وتهدف هذه الاتفاقيات إلى النهوض ببرامج التنمية البشرية، بما لها من أثر مباشر في تحسين ظروف عيش المواطن المالي، وإلى إضفاء دينامية قوية على علاقات التعاون الاقتصادي في مختلف المجالات. وتغطي هذه الاتفاقيات ميادين تشكل أعمدة أي اقتصاد صاعد من قبيل الاقتصاد والاستثمار والمالية والفلاحة والخدمات الجوية والصناعة وتشجيع الصادرات والصحة والتعاون المعدني والنفطي والغازي والبنوك والاتصالات والسكن والتكوين المهني والكهرباء والماء الصالح للشرب، بالإضافة إلى اتفاقيات للتعاون بين الاتحاد العام لمقاولات المغرب والمجلس الوطني لأرباب المقاولات بمالي. وقد أكد رئيس جمهورية مالي إبراهيم أبو بكر كيتا، أن التوقيع على هذه الاتفاقيات يشكل عنصرا أساسيا لانطلاقة جديدة في العلاقات بين المملكة المغربية وجمهورية مالي، معتبرا أن هذه الدينامية في العلاقات بين البلدين الشقيقين، "تنسجم مع التاريخ والجغرافيا، وكذا مع الأنتروبولوجيا، وجلالة الملك على صواب تام في تأكيد التوجه الإفريقي للمملكة". وتابع الرئيس المالي أن بلاده والمغرب "يسجلان هنا انطلاقة جديدة سعيدة، وتعاونا قائما في جو من الثقة والأخوة، لأن الأمر يتعلق ببلدين شقيقين، كل شيء يقرب بينهما". ويوم 21 فبراير 2014، أدى أمير المؤمنين، صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، ورئيس جمهورية مالي، إبراهيم بوبكار كيتا، صلاة الجمعة بالمسجد الكبير بباماكو. وبعد ذلك، تفضل أمير المؤمنين بإهداء الجهات المكلفة بتدبير الشؤون الدينية بجمهورية مالي، 10 آلاف من نسخ المصحف الشريف في طبعته الصادرة عن مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف قصد توزيعها على مساجد الجمهورية. وتأتي هذه المجموعة من المصاحف كدفعة أولى في إطار تنفيذ التعليمات الملكية السامية والقاضية بأن تقوم هذه المؤسسة بتزويد مساجد بلدان غرب إفريقيا بكل ما تحتاجه من مصاحف برواية ورش عن نافع التي هي من الاختيارات المشتركة بين المغرب وهذه البلدان. وفي اليوم نفسه أشرف صاحب الجلالة، مرفوقا بالرئيس المالي، على تسليم هبة عبارة عن نطف للتخصيب الحيواني لفائدة مربي الماشية بمالي. وتتكون هذه الهبة، التي منحتها مؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة، من125 ألف نطفة للتلقيح الحيواني، وكذا معدات للتخصيب الاصطناعي تشمل خمسة صناديق للتخصيب الاصطناعي، وخمس حاويات لتخزين النطف مع ستة أوعية. وتشمل هذه المعدات، أيضا، خمس حاويات لتخزين النيتروجين السائل و200 ألف قفاز للفحص، و100 ألف أنبوب للتخصيب الاصطناعي. وسيتم إنجاز برنامج التخصيب الاصطناعي، الذي تصل كلفته المالية إلى ثلاثة ملايين درهم، من طرف فريق مغربي للمساعدة التقنية. ويتمحور التعاون المغربي المالي من أجل تطوير تربية الأبقار بمالي على ثلاثة محاور هي تكوين تقنيين في التخصيب بالمغرب، وإحداث خمسة مدارات للتخصيب الاصطناعي حول مراكز تجمع مربي الماشية ودعم المنظمات المهنية من أجل تدبير برامج التخصيب الاصطناعي. وفي إطار تفعيل هذا البرنامج، تم نقل نطف التخصيب الحيواني هاته، التي تم إنتاجها بالمغرب تحت مراقبة بيولوجية وصحية مستمرة، في حاويات إلى باماكو. وبمقتضى هذا البرنامج، سيتولى خبراء مغاربة تقديم الدعم لفائدة التقنيين الماليين في انتقاء الأبقار التي ستخضع للتخصيب، والقيام بعمليات التخصيب الاصطناعي، وكذا تتبع الأبقار المخصبة. وعلى المدى المتوسط، سيمكن هذا البرنامج من إنتاج أبقار (إف 1 وإف 2) معدلة جينيا، تكون في نفس مستوى وجودة الأبقار الموجودة في المغرب وكذا أوروبا، والرفع من إنتاج الحليب وتحسين دخل المربين. إثر ذلك ترأس جلالة الملك، مرفوقا بالرئيس المالي، حفل وضع الحجر الأساس لتشييد مصحة للرعاية ما قبل وبعد الولادة، عصرية ومندمجة. وسيستفيد من هذه المصحة، التي ستتكفل ببنائها مؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة، على مساحة إجمالية تبلغ 5 هكتارات (هبة من دولة مالي)، ضمنها 7 آلاف و270 مترا مربعا مغطاة، سكان مدينة باماكو والمناطق المجاورة لها. وتهدف هذه المصحة، من مستوى عال، التي ستشكل نموذجا بالنسبة لمستشفيات الولادة في منطقة باماكو، إلى تقديم الخدمات والرعاية اللازمة لفترة ما قبل وبعد الولادة من الدرجة الثالثة والتكفل بحالات الحمل المستعصية والتقليص من حالات وفيات الأمهات والرضع. وستوفر هذه المؤسسة الصحية، التي سيكلف إنجازها غلافا ماليا بقيمة 105 ملايين درهم، العديد من الخدمات، تشمل بالخصوص العلاجات المكثفة والإنعاش بالنسبة للأمهات، وإنعاش الأطفال حديثي الولادة (الحالات الخطيرة التي تتطلب الحضانات الاصطناعية). وفي ما يتعلق بقسم الكشوفات، سيتم تزويده بجهاز للفحص بالأشعة وآخر للفحص بالأشعة عبر الموجات فوق الصوتية وجهاز سكانير وآخر لتصوير الأوعية، ومختبر متخصص وجناحين للعمليات، وأربع قاعات للتوليد وقاعة لاستقبال الأسر المرافقة ومرافق إدارية. وستصل الطاقة الاستيعابية لهذا المرفق الصحي ما مجموعه 74 سريرا، وإجراء500 عملية ولادة سنويا، مع إمكانية إجراء 200 عملية قيصرية، واستقبال 1400 حالة سنويا في قسم العناية المركزة والإنعاش بالنسبة للأمهات، وكذا 470 حالة من حديثي الولادة وإنعاش الرضع. وسيتم إنجاز هذه المصحة في ظرف 18 شهرا وسيسهر على تقديم الخدمات بها طاقم من 277 مستخدما، من ضمنهم 164 إطارا طبيا وإطارا طبيا موازيا. وأول أمس السبت أشرف جلالة الملك مرفوقا بالرئيس المالي، ببلدة دياغو، (حوالي 30 كلم عن باماكو) على إعطاء انطلاقة إنجاز وحدة لإنتاج الإسمنت، تنجزها مجموعة (إسمنت الأطلس-إسمنت إفريقيا) المغربية، والتي ستمكن عند انتهاء الأشغال بها من إنتاج 500 ألف طن من الإسمنت سنويا، على أن يرتفع الإنتاج في ما بعد إلى مليون طن سنويا. ويستغرق إنجاز وحدة الإنتاج هذه، التي ستقام على مساحة 10 هكتارات، 18 شهرا، وسيتطلب غلافا ماليا يبلغ 30 مليون أورو، وستنجز وفق أحدث المعايير التكنولوجية التي تتيح احترام البيئة، وترشد استهلاك الطاقة وإنتاج إسمنت يستجيب للمعايير المعمول بها وكذا إلى متطلبات السوق. كما قام جلالة الملك رفقة الرئيس المالي في اليوم نفسه بتدشين الشطر المالي من مشروع أسلاك الألياف البصرية الذي يربط بين سيكاسو (على حدود الكوت ديفوار وبوركينا فاصو)، وغوغي (على الحدود الموريتانية). ويروم إنجاز أسلاك الألياف البصرية هاته، على الخصوص، الاستجابة للطلب المتزايد على الصبيب العالي للشريط الدولي، وتحسين الربط بين بلدان المنطقة، وضمان سلامة وتأمين شبكة الاتصالات. وتشكل هذه الأسلاك جزءا من أسلاك الألياف البصرية العابرة لإفريقيا التي تشرف على إنجازها (اتصالات المغرب)، والتي تربط المملكة بموريتانيا ومالي وبوركينا فاصو والنيجر على مسافة 5698 كلم. وفي اليوم الأخير (23 فبراير 2014)، من الزيارة الملكية استقبل جلالة الملك السفير السابق لدولة مالي بالمغرب توماني دجيمي ديالو، الذي جاء لتوديع جلالة الملك، على إثر انتهاء مهامه الدبلوماسية بالمملكة. وخلال هذا الاستقبال، وشح صاحب الجلالة، السفير المالي بالحمالة الكبرى للوسام العلوي. وقبيل مغادرة باماكو، ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس وفخامة الرئيس المالي حفل تدشين شارع بالعاصمة المالية أطلق عليه إسم "شارع محمد السادس"، حيث قام قائدا البلدين بإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية إيذانا بتدشين الشارع تحت تصفيقات وهتافات الجماهير الغفيرة التي حجت لحضور هذه اللحظة الخالدة. وجاء إطلاق اسم جلالة الملك على هذا الشارع، تقديرا لشخص جلالة الملك. ويعد هذا الشارع أحد الشرايين الطرقية الرئيسية والمحورية في العاصمة المالية باماكو، ويمتد على طول 4 كلم ويبلغ عرضه 26 مترا في الاتجاهين. وتوجت الزيارة الرسمية لجلالة الملك لمالي بإصدار بيان مشترك جدد فيه الرئيس المالي التزامه بدعم تطبيق القرارات ذات الصلة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تؤكد، جميعها، على ضرورة التوصل إلى حل سلمي لهذا النزاع الذي يشكل عرقلة لمسلسل الاندماج الإقليمي والقاري. وأشاد الرئيس إبراهيم بوبكار كيتا بالجهود الجادة وذات المصداقية التي تبذلها المملكة المغربية من أجل المضي قدما نحو تسوية سلمية متفاوض بشأنها ونهائية لهذه القضية. وعبر عن أسفه لغياب المغرب عن الاتحاد الإفريقي، مؤكدا لجلالة الملك محمد السادس التزامه بالعمل، باتفاق مشترك مع نظرائه الأفارقة، من أجل عودة المغرب إلى حظيرة المنظمة الإفريقية. وبعدما نوه برؤية وانخراط والعمليات الإنسانية لجلالة الملك لفائدة السكان في إفريقيا، ثمن فخامة الرئيس إبراهيم بوبكار كيتا، عاليا، نهج المغرب لسياسة جديدة للهجرة، معبرا عن دعمه لإطلاق التحالف الإفريقي للهجرة والتنمية، كإطار جامع يهدف إلى وضع النقاش حول قضايا الهجرة في محيطه الطبيعي المتعلق بالاستقبال والضيافة والكرم، كما عبر عن التزامه بالمساهمة في إطلاق هذه المبادرة، خاصة من خلال المشاركة في الاجتماع الوزاري المزمع عقده في أبريل المقبل. وأكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس لفخامة ابراهيم بوبكار كيتا، رئيس جمهورية مالي، دعم ومساندة المغرب لتفعيل المخطط من أجل الإقلاع المستدام لمالي، الذي حظي بدعم المجتمع الدولي خلال مؤتمر بروكسيل الذي انعقد في 15 ماي 2013 حيث يعتبر المغرب عضوا في لجنة المتابعة. كما عبر صاحب الجلالة عن تهانئه للرئيس المالي على استئناف المفاوضات في باماكو بين مختلف مكونات الأمة المالية، في إطار حوار وطني شامل يهدف إلى إيجاد تسوية سياسية ونهائية للأزمة التي شهدتها البلاد. وجدد جلالة الملك التعبير عن انشغال المملكة المستمر بخصوص الحفاظ على الوحدة الترابية لجمهورية مالي واستقرارها، وكذا ضرورة المساهمة في التوصل إلى تسوية وتوافق يمكنان من التصدي للحركات المتطرفة والإرهابية التي تهدد على السواء بلدان المغرب العربي ومنطقة الساحل والصحراء.