من بين أهم المطالب التي رفعها المواطنون المغاربة، مطلب استقلالية السلطة القضائية، وهو مطلب قد يبدو للبعض نظريا وبسيطا، لكن دلالاته خطيرة جدا حسب البعض، فهو يعني أساسا وجود قضاء قوي غير خاضع للتأثير، قادر على تحقيق المساءلة بشكل مجرد، المساءلة التي قد لا يستسيغ البعض حتى سماع لفظها. ياسين العمراني عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب إذن فالمطلب خطير وخطير جدا حسب البعض، وما زاد من خطورته تبني جزء من الجهاز القضائي ممثلا في نادي قضاة المغرب لهذا المطلب- أقول المطلب ولا أقول الشعار، فالشعار قد يتبناه الجميع، والمطلب لا يمكن أي يسعى وراءه غير المقتنع به، وعليه لم يكن من بد غير فصل المطلب عن ذهن المواطن أولا، ثم إرجاع القضاة إلى رشدهم ثانيا، والهدف الأخير لن يكون إلا نتيجة تبعية للهدف الأول، بعد اعتماد بعض الآليات. أولا: فصل مطلب استقلالية السلطة القضائية عن ذهن المواطن الهدف: فصل مطلب استقلالية السلطة القضائية عن ذهن المواطن، لن يتأتى إلا من خلال تشكيك المواطن في القضاء، وزعزعة ثقته به، من خلال إظهار القضاء والقضاة في أبشع الصورحتى أن البعض وصل به الأمر إلى تخويف المواطن من استقلال السلطة القضائية، في التذكير بأوضاع الدولة المصرية، إبان المظاهرات، حين طرح: الأمن مقابل الفوضى...هنا صور القضاة كطغاة فاسدون. فهل أنت مستعد أيها المواطن لتمنح هؤلاء استقلالية في عملهم؟ هل تريد مزيدا من الطغيان؟ هذا هو الخيار الذي بين أيديكم. مراحل التنفيذ: مراحل التنفيذ كانت ممنهجة بشكل دقيق خلافا لما يتصوره البعض، واعتمدت في تنفيذها بعض وسائل الإعلام أساسا، ومن الدلائل على التنظيم المحكم لهذه المراحل، توحد المواضيع في الهدف وفي الوسيلة، فالهدف كان واحدا، وهو زعزعة ثقة المواطنين في القضاء، تخويفا وترهيبا من استقلاليته المحتملة. أما وحدة الوسيلة فكانت تبرز مع وحدة الموضوع من مرحلة لمرحلة، فخلال المرحلة الأولى طرح موضوع فساد القضاة- دون غيرهم، حيث صور فيها القضاة كأكبر المفسدين في الأرض، ولم يطرح غير هذا الوصف أو هذا الموضوع، خلال فترة من الزمن، وكانت العناوين منصبة فقط على هذا الموضوع، ولترجعوا إلى ما كان يكتب بشكل متسلسل بل وفي مرحلة محدودة زمنيا مع اتحاد في الموضوع، ألا وهو "فساد القضاء". ثم جاءت مرحلة تصوير القضاة كطغاة يستعبدون الناس ويمارسون أبشع صور الإهانة والعنف ضدهم، وهي المرحلة التي نعيشها حاليا...ومازال المستقبل حافلا بالمراحل... مع الإشارة إلى أن هذا ليس إقرارا منا بوجود الملائكة فقط في وسط الجسم القضائي، ولكن وصفا لما ينهج في مواجهة المطلب ولو باستغلال حالات حقيقية، والجميع يعلم حجم الفساد في قطاعات أخرى لم يجرؤ البعض حتى على طرح التساؤل بشأنها. ثانيا: إرجاع القضاة إلى رشدهم شكل ظهور صفحة التواصل الاجتماعي لنادي قضاة المغرب، أخطر مرحلة في مراحل تحول فكر القضاة بالمغرب، فالمرحلة بقدر ما أبرزت نمطا جديدا للتفكير داخل الجسم القضائي، عنوانه الأساسي الجرأة على فتح العلبة السرية لأحد أهم الأجهزة، كانت تشكل وسيلة لتواصل القضاة مع المواطنين، ومن ثمة تسهيل عملية الالتفاف حول المطلب الواحد، وهو مطلب استقلال السلطة القضائية، فهل هذا الوضع الجديد مستساغ؟ الجواب لن يكون إلا بالنفي، والدلائل على ذلك لا تعد ولا تحصى، ويكفي الرجوع لأبرزها، وهو المنع الذي جوبه به القضاة يوم التأسيس. لأجل ذلك، يتعين إرجاع القضاة إلى رشدهم، لكن كيف؟ كما قلنا سلفا تحقيق النتيجة الأولى بالمحصلة سيتيح الفرصة لإعادة القضاة لرشدهم، لأن استعداء المواطن للقاضي عن طريق تشويه صورة القضاء في ذهن المواطن، يغني عن الدخول في مواجهة مباشرة مع القضاة الخارجين عن الطوع، وحين يجد القاضي نفسه في مواجه المواطن، فالأكيد أن ذلك سيجعله يعود لرشده، ولكن هذا غير كافي لوحده، ويتعين تدعيمه بآليات أخرى، أهمها- أقول أهمها فقط: - رفع الحماية عن شخص القاضي، وإبراز منطق التخلي عنه، المهم أنك أيها القاضي غير محمي فسواء تعرضت لاعتداء جسدي أو إهانة فلا حماية لك، لأن للحماية متطلبات، ولكم في وقائع الاعتداءات المتكررة وما صاحبها من تجاهل خير دليل. - الإبقاء على الوضع المتأزم لأجور القضاة، وهو بقدر ما يشكل آلية لإرجاع القضاة لرشدهم يشكل آلية عقابية لهم، فتكريس المعاناة الاجتماعية لأغلبهم ودون مبرر لا يعدو أن يكون آلية انتقامية في مواجهة الجسم القضائي بأكمله. خلاصة القول: إن محاربة المطلب، وفق التفصيل أعلاه، لن يكون له إلا نتيجة واحدة، وهي الانتقال من السيء إلى الأسوأ، لأن النتيجة الحتمية للمسار أعلاه، هي إضعاف الجهاز القضائي، الذي لا يعني شيئا آخر غير المس بالسلم والأمن الاجتماعيين، ومقاومة هذا الهدف عهدة في جيد القضاة، وعلى الجميع تحمل مسؤولياته، فالتاريخ لا يرحم...