عادت الابتسامة وبريق الأمل إلى مصطفى، بعد أن غادر أحضان المدرسة مكرها إلى الشارع، ليجد في "مسرح الرحل"، وهي أول تجربة من نوعها في المغرب، تعويضا عن تعليم وحماية وتربية افتقدها بين دروب الأحياء الفقيرة والمهمشة لمدينة سلا المجاورة للرباط.لم يصدق مصطفى الخلفي، وعمره 14 عاما، دخوله دون شروط ووثائق إدارية، أو مقابل مادي شهري، إلى تجربة المسرح المتجول، الذي يدخل في إطار فنون الشوارع، ليكتشف بعضا من مواهبه الضائعة، ويشتعل فيه حماس التشبث بما يمكن أن يوازن انكساره الداخلي، الناجم عن الحرمان من مقاعد الدراسة، مثل بقية أطفال جيله. وقال مصطفى في الخيمة، التي نصبها المسرح المتجول، في دوار الميكة، وهو أحد الأحياء الفقيرة والمهمشة، "لم أجد راحتي في الدراسة وانقطعت عند المستوى الرابع الابتدائي لأشتغل مستخدما عند عجلاتي". وأضاف "في المدرسة كان المدير دائما يأمرني أنا ومجموعة من التلاميذ الكسالى بجمع قمامة المدرسة، فهربت من الدراسة". ويقول، وشعلة الأمل تتقد في عينيه من جديد، بعد أن كانت تخبو عند الحديث عن الانقطاع عن الدراسة "شعرت هنا بالتشجيع والاحترام من قبل عدد من الأصدقاء، كما أنني أستفيد من بعض الدروس التعليمية، بالإضافة إلى ممارستي لهواية المسرح بالدرجة الأولى. وجدت هنا مدرستي الجديدة، وأحببت تجربة المسرح من كل قلبي، وأتمنى أن أحقق أمنيتي في أن أصبح فنانا كبيرا". ورغم مظاهر الفقر البادية على الأطفال، لا سيما ثيابهم الرثة، التي لا تكاد تسترهم في الأيام الباردة، والبنية الجسمانية الهزيلة لأغلبهم، فإن أمارات السعادة العارمة والمرح والحيوية كانت ظاهرة عليهم، وهم منقسمون بين من يقوم بالألعاب البهلوانية، ومن يمارس فن الإيقاع، أو يمثل على خشبة المسرح، حيث بدت خيمة الرحل مثل "سوق" فنية كبيرة تتسع لجميع المواهب. وتعد هذه التجربة الأولى من نوعها في المغرب، بدأها الفنان المغربي المهاجر محمد الحسوني، وزوجته سمية، قبل ثلاث سنوات وخصصاها للأحياء الشعبية الهامشية، خاصة في مدينة سلا المجاورة للرباط، حيث لاحظ العديد من مظاهر الفقر والتهميش، وما يترتب عنها من عنف وانحراف. وكان الحسوني، الذي عمل ممثلا في عدد من مسارح الرحل بأوروبا برفقة زوجته سمية، في زيارة إلى المغرب ذات صيف، وقدم عرضا مسرحيا في حي "الانبعاث" الشعبي، فتقدمت نحوه امرأة فيما كان يهم بجمع أغراضه للرحيل، "ماذا تفعلون؟" فظن أنها تضيق بوجودهما فأجابها "لا تقلقي سنرحل"، فأجابته كمن تتوسل إليه "بالكاد بدأتم لماذا الرحيل؟". من هنا، يقول الحسوني "شعرت بأن مكان زوجتي وأنا لم يعد في أوروبا، وقررنا خوض تجربة مسرح الرحل، في إطار ما يعرف بفنون الشوارع في المغرب، وبالضبط في أحياء مدينة سلا الفقيرة والمهمشة كخطوة أولى". وتشهد عدد من أحياء سلا، التي قدم فيها الحسوني عروضا برفقة مجموعة من الأطفال التحقوا به تباعا بعد استقراره في المغرب، مظاهر الفقر والتهميش والعنف، وانتشار المخدرات والجريمة. ووصل عدد المشاركين من الأطفال 260 طفلا، وهو ما يفوق بكثير، حسب رأي الحسوني، إمكانيات جمعيته الثقافية المحدودة. ويعتمد الحسوني في تمويل جزء من مشروعه الفني على المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أطلقها الملك محمد السادس، منذ نحو خمس سنوات لمحاربة الفقر. وبالنسبة للحسوني، فإن هذه هي "إحدى المعاني النبيلة للتنمية البشرية". لكن تبقى نسبة التمويل غير كافية، إذ أنه يرى أن مبادرة التنمية "ليست إلا وسيلة لكي نبدأ المشروع". وأضاف "نحن نبحث عن ممولين، والمعادلة هي أن نحافظ على مجانية العروض في الشوارع والأحياء، ونجد كيف نمنح أجورا للمشاركين". وبالإضافة إلى مبادرة التنمية البشرية، هناك دعم المركز الثقافي الألماني "غوته"، والمعهد الثقافي الفرنسي، اللذان اقتنعا بأهمية المشروع الفني في أبعاده الفنية والإنسانية والاجتماعية. كما مولت مفوضية الاتحاد الأوروبي بالرباط مشروعا يعتبر مهما في عمر هذه التجربة الفتية، وهو عبارة عن عرض فني متنوع سيقدم في "دوار الميكة" في شهر نونبر المقبل، تحت عنوان "فنون الشارع أمل الشباب المهمش". وبالإضافة إلى فنون المسرح، يرتكز مسرح الهواة في عروضه على الرقص والألعاب البلهوانية، وألعاب الأقنعة وفنون السيرك، والعرائس الضخمة، التي يصل ارتفاع بعضها إلى نحو المتر ونصف المتر. ويقول الحسوني "نمارس فنون مسرح الشوارع وفن العرائس، والسيرك، والفكرة أوروبية لكن (المنتج) محلي مغربي". ويضيف الحسوني أن هذا الخليط المغربي المتأثر بالقرب من أوروبا والجذور الضاربة في إفريقيا، هو الذي مكن التجربة المغربية في مسرح الرحل من أن تكون تجربة متميزة. ويرى الحسوني أن التركيز على الأحياء المهمشة يعد "أفضل الطرق لمواجهة التهميش، الذي يترتب عليه عدد من مظاهر الحقد والانحراف". ويتطلع إلى تعميم تجربته في المستقبل على باقي الأحياء الفقيرة في المغرب. وأضاف "بالنسبة لي فإن هؤلاء الفقراء والمهمشين يجب الاقتراب منهم، ومحاورتهم والاستماع إليهم لامتصاص غضبهم. والمهم بالنسبة إلي هو ضم عدد من الحالات الاجتماعية إلى "الفرقة وإنقاذها من الضياع". وينفتح الحسوني، الذي عمل في عدد من مسارح أوروبا المتجولة، كمسرح "تون أوند كيرشن" الألماني، وعدد من المسارح بفرنسا، على تجارب مسرحية عالمية روسية وهندية، وصينية، ويحاول الاقتباس منها أحيانا.