السماء ملبدة بالغيوم، والجو ينذر بين الفينة والأخرى، بمقدم الأمطار. غير أن هذه النشرة المناخية، غير المشجعة، لم تمنع خدوج (58 سنة)، ربة بيت، من الخروج، فالموعد مهم والمناسبة غير عادية.إنه يوم "الزيارة"، المنتظر كل سنة، تعكف فيه النسوة كما الرجال، على زيارة ذويهم الموتى، في يوم، يمتزج فيه ما هو موروث ثقافي بما هو روحاني. تقول خدوج، والحماس ينضح من وجهها "يوم الزيارة ينتظر فيه الموتى من يترحم عليهم...". تنزل خدوج من سيارة الأجرة، وتتجه نحو الباب الرئيسي لمقبرة الشهداء بالبيضاء، تقف برهة وتلقي بنظرها على الساعة، إنها التاسعة صباحا، والمقبرة بدأت تكتظ، شيئا فشيئا، بالزوار. تخرج دفترا مهترئا من حقيبتها الجلدية، وتدلف إلى دائرة المحافظة بالمقبرة، تنتظر دقائق معدودات، ليوافيها رجل أبيض، طويل القامة، مستفسرا. دليلك في المقبرة تأتي خدوج لزيارة جدتها كل سنة، وهي تحمل معها أمل العثور على قبر والدها، تسلم دفتر الحالة المدنية للموظف، ويطالع باهتمام تاريخ الوفاة، يستخرج مجلدا كبيرا من الخزانة، يمرر عينه على التواريخ بسرعة، فيعثر على مراده. تتسلم خدوج ورقة صغيرة من الموظف، وتهم بدخول المقبرة، يقول احد المسؤولين بالمقبرة رفض ذكر اسمه "تحديد رقم القبر وصاحبه لا يعني إيجاده"، غموض تصريح هذا المسؤول، سرعان ما سيزول، ويتجسد واقعا أمام خدوج، التي وجدت نفسها وسط متاهة حقيقية، قبور هنا وهناك، تتشابه في بعض الأحيان وتختلف في أخرى. حائرة، تعلو وجهها الدهشة، ظلت خدوج واقفة، اقترب منها شاب أسمر البشرة، يحمل في يده دلو ماء، وسألها إن كانت في حاجة إليه، لكن ذهولها والورقة التي في يدها، بددت تساؤله. يقول عبد الرزاق بانزعاج "في هذه المقبرة هناك شخصان فقط يعرفان مكان كل قبر، أين يقع بالتحديد“. الشخصان مشغولان ولا فائدة من المناداة عليهما، يضيف عبد الرزاق "إنهما يحجزان في هذا اليوم، من قبل زبائن بغرض مرافقتهم خلال الزيارة". رافق عبد الرزاق، خدوج في محاولة لإيجاد مكان القبر، مستدلا بتوجيهات بعض حفظة القرآن "الطلبة"، الذين يرابطون بالمكان، في انتظار الزوار، لقراءة آيات قرآنية وأدعية لهذا الميت أو ذاك، مقابل بضع دراهم، يقول (ح.ت)، 56 سنة، مقرئ، "أنا في هذه المقبرة منذ أن كان عمري 25 سنة". أعيى البحث كلا منهما، فلا أحد يعرف خبايا المقبرة وقبورها، غير ولد المسكيني أو عزيز الصحراوي، اللذين اشتغلا في حفر القبور، وتشييع الجنائز، مدة ليست بالهينة. فضلت خدوج انتظار احدهما إلى أن يفرغ من مرافقة زبائنه، لكن عبد الرزاق ظل مصرا على مواصلة البحث. أفكار وفرضيات أخذت تعصف بخدوج، لربما الأمطار الأخيرة طمست معالم القبر أو خربته، أو لعلهم أقاموا على أنقاضه، قبرا آخر. مخاوف لم تبتعد عن الواقع كثيرا، إذ صرح أحد المسؤولين بالمقبرة ل"المغربية“، فضل عدم ذكر اسمه، أن الأمطار تهدم القبور غير المشيدة كل عام، لكن الغريب في الأمر، أن مسؤولية إعادة إصلاح أو بناء هذه القبور، لا تقع على عاتق إدارة المقبرة أو الجهة الوصية عليها، بل يتحملها ذوو ذلك الميت الذي هدم قبره. المفارقة غريبة، تلك التي تحكم ببقاء قبر مفتوح بفعل الأمطار، إلى أن يحضر احد ما، للسؤال عنه، حتى ذلك الحين يمكن أن تختفي معالمه، ولا يمكن الاستدلال على مكانه مرة أخرى. وحالة خدوج، ليست هي الوحيدة، التي تتخبط في هذه الدائرة غير المسؤولة. يمر الوقت وعبد الرزاق لم يأت بالجديد، مكان القبر مازال مجهولا، رغم حيازة أرقام التربيع والقطعة التي يوجد بها، تنهض خدوج على مضض، والخيبة بادية على قسمات وجهها، تولي وجهها صوب قبر جدتها، تنظف محيطه من العشب والوحل، تمسح شاهده. وتطالع بفضول أشكال القبورالأخرى، منها الرخامي والحجري، لكن ما استرعى انتباهها، قبر أزرق اللون، يتموقع جنوبا، أسفل قبر المقاوم الشهيد الزرقطوني. شاهِد القبر منتصب تعلوه بعض الزخارف، فيما زين الباقي منه بالصدف البحري، يقول عبد الرزاق، بأسى "إنه لشاب بحار قضى غرقا، وتأتي أمه لزيارته باستمرار". نهاية الزيارة تكمل خدوج طقوس زيارتها، وتتجه صوب المخرج، وهي تتطلع في البقع الأرضية المسورة أو "الأحواش"، على جنبات الطريق، يقول عنها (س.و)، 34 سنة، مقرئ، "إنها قطع أرضية باهضة الثمن، يشتريها أناس بغرض تحويلها إلى مدافن عائلية". تعلق خدوج في زحام الباعة المتجولين أمام المقبرة، تشتري بعض التين المجفف والخبز، ثم تعاود الدخول، لأداء آخر طقوس "الزيارة"، تفتح كيسها البلاستيكي، لإخراج ما اقتنته، لتطوق في الحال بالعشرات من المتسولين، الذين تعج بهم المقبرة هذا اليوم، حتى أن بعضهم يدخل في عراك مع الآخر، يقول عزيز، المقعد على كرسي متحرك "أنا معاق وأحاول تسول رزقي هنا، لكن المكان ضاق بالمتسولين، بل حتى الأفارقة أيضا"، ذلك أن بعض المهاجرين السريين من جنوب الصحراء، صاروا يعرفون هذه المناسبة، ويعكفون على الاستفادة منها. تفرغ خدوج محتوى الكيس، وهي تنادي في المتسولين "دعيو لمولاها بالرحمة.."، لكن لا أحد يبالي بها، فالكل يتصارع للظفر بقطعة خبز أو تين مجفف، ترمي بنظرها مرة أخيرة على المقبرة، وهي تهمهم ببعض الأدعية، ثم تمضي في اتجاه الشارع، والأمطار الخفيفة تواكبها، أخيرا وفت الغيوم الملبدة بنذرها، وأمطرت.. فأخمدت ما تبقى من حماسة خدوج، التي خرجت بها، هذا الصباح، في طريقها إلى "الزيارة".